قصة الصلاحية .. تغطية الدولة محدودة .. لاتساع السوق وغياب قاعدة للبيانات

يشكل هذا التقرير محاولة لتوصيف الظاهرة من منظور علمي وتحليلي، مع تتبّع تطورها التاريخي، واستعراض الآثار الصحية والاجتماعية المترتبة عليها، وبيان دور الجهات المختصة في مواجهتها.
الخلفية التاريخية لتطور الظاهرة
بدأ الاهتمام بمسألة “تاريخ الصلاحية” في ليبيا مع توسّع حركة الاستيراد خلال عقد السبعينيات، عندما بدأت الأسواق المحلية تستقبل موادًا مصنّعة ومعلّبة قادمة من الخارج.
غير أن مفهوم الرقابة على جودة السلع ظلّ محدودًا حتى أواخر التسعينيات، حيث كانت الأسواق تعتمد على المراقبة العينية والبلاغات الفردية.
ومع الانفتاح التجاري الواسع بعد عام 2003، ازدادت حركة دخول السلع الغذائية المستوردة، ما تطلّب تحديث منظومة التفتيش الغذائي وتوحيد إجراءات الاعتماد.
لكن بعد عام 2011، ومع الانقسام الإداري وضعف المؤسسات، فقدت منظومة الرقابة ترابطها، وأصبح دخول السلع عبر المنافذ البرية والبحرية يتم في كثير من الأحيان دون فحص كافٍ، ما سمح بتسرب كميات من المواد غير المطابقة أو منتهية الصلاحية إلى الأسواق المحلية.
وقد تطورت الظاهرة تدريجيًا من البيع الفردي المحدود إلى ظاهرة اقتصادية شبه علنية، خاصة في الأسواق الشعبية والمناطق ذات الكثافة السكانية العالية.
الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للظاهرة
يُعدّ العامل الاقتصادي المحرك الرئيس لانتشار بيع السلع المنتهية الصلاحية.
فقد أدى ارتفاع الأسعار وتراجع القدرة الشرائية للمواطن الليبي إلى زيادة الطلب على السلع منخفضة الثمن، بما في ذلك السلع التي اقترب تاريخ صلاحيتها من الانتهاء أو تجاوزته بفترة قصيرة.
يستغل بعض التجار هذا الوضع لتصريف بضائع مكدّسة أو منتهية، عبر بيعها بأسعار تقل بنسبة تتراوح بين 30% و70% عن السعر الأصلي.
تنتشر هذه الممارسات بشكل خاص في مدن مثل طرابلس، بنغازي، ومصراتة، إضافة إلى بعض الأسواق الفرعية في الجنوب.
وتشير تقديرات مركز الرقابة على الأغذية والأدوية إلى أن ما بين 10% إلى 15% من السلع الغذائية المعروضة في الأسواق قد تكون غير مطابقة لمواصفات الجودة أو منتهية الصلاحية، خصوصًا في الفترات التي تشهد اضطرابًا في سلاسل التوريد.
ثالثاً: الإطار القانوني والتنظيمي
تنظم القوانين الليبية مسألة تداول السلع وفق أحكام القرار رقم «13» لسنة 1989 بشأن حماية المستهلك، الذي ينص على معاقبة كل من يتداول أو يبيع مواد منتهية الصلاحية بالغرامة أو الحبس.
كما يحدد القرار رقم «286» لسنة 2015 مهام جهاز الحرس البلدي في مراقبة الأسواق وضبط المخالفات المتعلقة بالمواد الغذائية.
وتتولى وزارة الاقتصاد والتجارة، عبر إدارة التفتيش والرقابة على الأغذية، التنسيق مع مركز الرقابة على الأغذية والأدوية لتطبيق معايير التخزين والتداول والتوزيع.
غير أن ضعف الإمكانيات اللوجستية، ونقص المختبرات المتنقلة، وتعدد الجهات ذات الصلة دون وجود قاعدة بيانات موحدة، كلها عوامل حدّت من فعالية تطبيق هذه التشريعات، ما أدى إلى اتساع هامش التلاعب بالسلع من قبل بعض التجار.
آليات الرقابة والضبط
تشير بيانات جهاز الحرس البلدي في تقريره السنوي لعام 2024 إلى تسجيل أكثر من «2300» مخالفة تتعلق ببيع سلع منتهية الصلاحية في مختلف المدن الليبية.
كما أُتلفت كميات تقدّر بـ«120 طنًا» من المواد الغذائية الفاسدة أو المنتهية، معظمها من مشتقات الألبان والعصائر والمعلبات المستوردة.
وتعتمد فرق التفتيش في عملها على الحملات الميدانية الدورية، وعلى البلاغات الواردة من المواطنين أو البلديات.
إلا أن تغطية الحرس البلدي ما تزال محدودة مقارنة باتساع رقعة الأسواق، وغياب قاعدة بيانات موحدة لمتابعة مسار السلع منذ دخولها الميناء حتى عرضها في المحال التجارية.
الآثار الصحية والطبية
تؤكد التقارير الصحية الصادرة عن مركز الرقابة على الأغذية والأدوية أن تناول السلع المنتهية الصلاحية يسبب اضطرابات صحية تتراوح بين خفيفة وحادة، تشمل حالات تسمم غذائي، والتهابات معوية، واضطرابات في الكبد والكلى نتيجة تراكم المواد الحافظة المتحللة.
وتبيّن الإحصائيات الطبية لعام 2023 تسجيل نحو «4200» حالة تسمم غذائي في المستشفيات الليبية، 70% منها ناتجة عن استهلاك أغذية أو مشروبات غير مطابقة للمواصفات أو منتهية الصلاحية.
كما يشكل الأطفال وكبار السن الفئة الأكثر عرضة للمضاعفات بسبب ضعف المناعة.
ويشير الأطباء إلى أن بعض الأضرار لا تظهر بشكل فوري، بل تتطور على المدى الطويل نتيجة تراكم السموم في الجسم.
التطور الثقافي والسلوكي
تغيرت أنماط استهلاك الغذاء في المجتمع الليبي خلال العقود الأخيرة.
ففي الماضي، كانت الأسر تعتمد على الإنتاج المحلي والتخزين الطبيعي للأطعمة، مما قلل من الحاجة إلى المنتجات المعلبة.
أما اليوم، ومع التوسع الحضري وتراجع الإنتاج المحلي، أصبح الاعتماد على الأغذية المعبأة والمستوردة أمرًا أساسيًا.
وقد أدى ضعف الوعي الاستهلاكي إلى إهمال قراءة تاريخ الصلاحية أو فهم الفرق بين “قرب الانتهاء” و”الانتهاء الكامل”، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.
كما أن غياب حملات التوعية المنتظمة ساهم في استمرار الظاهرة دون ردع ثقافي أو سلوكي فعّال.
التداعيات المستقبلية والتوصيات
استمرار تداول السلع المنتهية الصلاحية يمثل خطرًا مزدوجًا على الصحة العامة والاقتصاد الوطني.
فمن الناحية الصحية، يؤدي إلى زيادة الضغط على المرافق الطبية وارتفاع معدلات الأمراض الغذائية.
ومن الناحية الاقتصادية، يضر بثقة المستهلك ويؤثر في سمعة السوق المحلية ويخلق بيئة تنافسية غير عادلة بين التجار الملتزمين والمخالفين.
ولذلك، يُوصى بما يلي:
1. إنشاء قاعدة بيانات وطنية موحدة لتتبع السلع منذ دخولها حتى بيعها.
2. دعم جهاز الحرس البلدي بالمعدات الحديثة والمختبرات المتنقلة.
3. إطلاق حملات إعلامية مستمرة للتوعية بمخاطر استهلاك السلع المنتهية الصلاحية.
4. إلزام التجار بعرض تواريخ الإنتاج والانتهاء بوضوح على الأرفف.
5. تشجيع المستهلكين على الإبلاغ عن المخالفات عبر تطبيقات إلكترونية معتمدة.
6. تحديث التشريعات ورفع العقوبات المالية لتناسب حجم المخالفات المسجلة.
تمثل قضية انتهاء الصلاحية في ليبيا أحد المؤشرات الدالة على التحديات المركبة التي تواجه منظومة الأمن الغذائي.
فهي ليست مسألة رقابة فحسب، بل انعكاس مباشر لظروف اقتصادية صعبة وثقافة استهلاكية تحتاج إلى إصلاح.
ويظل التكامل بين الجهات الرقابية والتشريعية والإعلامية ضرورة ملحّة لضمان سلامة الغذاء وصحة المواطن.
إن تطوير منظومة شاملة للرقابة الغذائية سيعزز الثقة في الأسواق المحلية ويضمن حماية المستهلك الليبي من المخاطر الصحية الكامنة في الغذاء غير الصالح للاستهلاك.