على الطريق

قصة في ذات المكان

منار الطاهر

البيتُ‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬تطفأ‭ ‬أضواؤه

يقعُ‭ ‬في‭ ‬ضواحي‭ ‬مدينة‭ ‬طرابلس،‭ ‬تسكنه‭ ‬أمٌّ‭ ‬وأربع‭ ‬بنات؛‭ ‬شيماء‭ ‬الصغرى‭ ‬تبلغ‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬تسع‭ ‬سنوات،‭ ‬فهي‭ ‬‮«‬سُكّر‭ ‬البيت‮»‬‭ ‬كما‭ ‬يدّعون‭ ‬أخواتها؛‭ ‬هاجر،‭ ‬وزينب‭ ‬التوأمان،‭ ‬فتاتان‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية،‭ ‬ثم‭ ‬تليهما‭ ‬مريم‭ ‬الكبرى؛‭ ‬الصبية‭ ‬الجامعية،‭ ‬صديقة‭ ‬أمها،‭ ‬ومدللة‭ ‬أبيها‭.‬

توفي‭ ‬والدهن‭ ‬العم‭ ‬سليمان‭ ‬إثر‭ ‬حادث‭ ‬مروري‭ ‬شنيع‭ ‬يبعد‭ ‬عن‭ ‬بيته‭ ‬أمتارٍ‭ ‬معدودة،‭ ‬قادمًا‭ ‬ومسرعًا‭ ‬من‭ ‬مهمة‭ ‬عملٍ‭ ‬قد‭ ‬أنجزها‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬بنغازي‭ ‬فقط‭ ‬ليلتحق‭ ‬بزوجته‭ ‬وبناته‭ ‬ويمكّنهن‭ ‬من‭ ‬حضور‭ ‬حفل‭ ‬زفاف‭ ‬مهم‭ ‬في‭ ‬العائلة‭.‬

البنات‭ ‬في‭ ‬مظهرٍ‭ ‬آسر،‭ ‬يرتدين‭ ‬ملابس‭ ‬العُرس‭ ‬الفاخرة؛‭ ‬حيث‭ ‬اكتفت‭ ‬الخالة‭ ‬رُقية‭ ‬بعباءتها‭ ‬السوداء‭ ‬وكأنها‭ ‬أبصرتْ‭ ‬شيئًا‭ ‬عن‭ ‬مصير‭ ‬زوجها‭.‬

قفزت‭ ‬شيماء‭ ‬فرحًا‭ ‬بفستانها‭ ‬الأبيض،‭ ‬ثم‭ ‬قالت‭:‬

‭- ‬لبسيني‭ ‬طوق‭ ‬الورد‭ ‬يا‭ ‬مريم،‭ ‬بابا‭ ‬قريب‭ ‬يوصل‭.‬

لتلفظ‭ ‬مريم‭ ‬بذعرٍ‭:‬‭ ‬

‭- ‬سمعتوا‭ ‬صوت‭ ‬الضربة؟‭.‬

لتجيبها‭ ‬الخالة‭ ‬رُقية‭ ‬بصوتٍ‭ ‬شجيٍّ‭ ‬خافتٍ‭ ‬وكأنه‭ ‬مشتقٌّ‭ ‬من‭ ‬أصوات‭ ‬الأرامل‭:‬‭ ‬

‭- ‬الباين‭ ‬صوت‭ ‬حادث،‭ ‬ربي‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬عون‭ ‬إلي‭ ‬جت‭ ‬فيه‭.‬

أمّنتْ‭ ‬مريم‭ ‬لدعاء‭ ‬أمّها،‭ ‬ثم‭ ‬وضعتْ‭ ‬الطوق‭ ‬على‭ ‬شعر‭ ‬شيماء‭ ‬المنسدل،‭ ‬وغازلتها‭ ‬بنظرةٍ‭ ‬ملؤها‭ ‬الإعجاب‭ ‬وقالت‭:‬‭ ‬

‭- ‬عمري‭ ‬ما‭ ‬شفتْ‭ ‬ورد‭ ‬يحطوا‭ ‬فوق‭ ‬راسه‭ ‬وردًا‭ ‬إلا‭ ‬أنتِ‭ ‬يا‭ ‬شمومة‭.‬

والتوأمان‭ ‬في‭ ‬عالمٍ‭ ‬موازٍ‭:‬‭ ‬

‭- ‬حافظة‭ ‬يا‭ ‬هاجر‭ ‬شن‭ ‬بتغني‭ ‬في‭ ‬العرس‭.‬

لتقاطعهن‭ ‬الخالة‭ ‬رُقية‭ ‬بنظراتٍ‭ ‬حادّةٍ‭ ‬لم‭ ‬تفهمهن‭ ‬سوى‭ ‬مريم‭ ‬التي‭ ‬ذكّراها‭ ‬في‭ ‬صوت‭ ‬الضربةِ‭ ‬على‭ ‬الفور‭.‬

طال‭ ‬انتظار‭ ‬البنات‭ ‬وأمّهن،‭ ‬وعقارب‭ ‬الساعة‭ ‬لم‭ ‬تتحرك‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬منذ‭ ‬الليلة‭ ‬التي‭ ‬ذهب‭ ‬فيها‭ ‬العم‭ ‬سليمان‭ ‬إلى‭ ‬بنغازي‭.‬

خيّم‭ ‬الهدوء‭ ‬على‭ ‬المكان،‭ ‬ومظاهر‭ ‬الفرح‭ ‬بدأتْ‭ ‬تتلاشى،‭ ‬وكأنها‭ ‬لم‭ ‬تولد‭ ‬قط،‭ ‬الفساتين‭ ‬تجعّدت،‭ ‬والعطور‭ ‬تبخّرت،‭ ‬والحُمرة‭ ‬ساحت،‭ ‬والدقائق‭ ‬التي‭ ‬كانتْ‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬فيها‭ ‬أباهن؛‭ ‬أصبحتْ‭ ‬تمر‭ ‬عليهن‭ ‬كمرور‭ ‬الساعات‭. ‬

التوأمان‭ ‬بصوتٍ‭ ‬عجول‭:‬‭ ‬

‭- ‬مش‭ ‬قال‭ ‬نص‭ ‬ساعة‭ ‬ونوصل،‭ ‬توا‭ ‬فاتت‭ ‬ساعة‭ ‬ونص‭.‬

ثم‭ ‬أردفتْ‭ ‬زينب‭ ‬بإلحاحٍ‭: ‬

ترا‭ ‬عاودي‭ ‬كلميه‭ ‬يا‭ ‬مريم،‭ ‬شوفيه‭ ‬علاش‭ ‬عطّل‭.‬

بأيادٍ‭ ‬ترتعش‭ ‬من‭ ‬هول‭ ‬اللحظة؛‭ ‬ناولتْ‭ ‬مريم‭ ‬هاتفها‭ ‬إلى‭ ‬أمها‭ ‬كي‭ ‬لتجري‭ ‬المكالمة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تقوَ‭ ‬عليها‭.‬

الأم‭ ‬في‭ ‬حيرة‭ ‬من‭ ‬أمرها،‭ ‬وقلبها‭ ‬يئن‭ ‬على‭ ‬شريك‭ ‬حياتها،‭ ‬ابتلعتْ‭ ‬ريقها‭ ‬ثم‭ ‬دعت‭ ‬في‭ ‬سرّها،‭ ‬وأخذتْ‭ ‬تتصل‭ ‬بالعم‭ ‬سليمان‭ ‬ريثما‭ ‬يردّ‭ ‬عليها‭ ‬وتلعن‭ ‬وسواسها‭.‬

هناك‭ ‬في‭ ‬رأس‭ ‬الشارع،‭ ‬وفي‭ ‬ذات‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬سُمعت‭ ‬منه‭ ‬الضربة،‭ ‬حادث‭ ‬سير‭ ‬مروع،‭ ‬راح‭ ‬ضحيته‭ ‬رجلًا‭ ‬مألوفًا،‭ ‬ليتّضح‭ ‬بأنه‭ ‬العم‭ ‬سليمان‭ ‬بعد‭ ‬أنَّ‭ ‬تعرّف‭ ‬عليه‭ ‬أحد‭ ‬الجيران‭.‬

وعلى‭ ‬أرصفة‭ ‬الشارع‭ ‬نفسه،‭ ‬المصاب‭ ‬جلل‭ ‬والكل‭ ‬حزين‭ ‬لفقدان‭ ‬الجار‭ ‬الطيب،‭ ‬قد‭ ‬جرى‭ ‬حديثٌ‭ ‬بين‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬شباب‭ ‬المنطقة،‭ ‬ليسأل‭ ‬أحدهم‭ ‬سؤالًا‭ :‬

‭- ‬هو‭ ‬وين‭ ‬حوشه‭ ‬المرحوم‭.‬

ليجيبه‭ ‬الآخر‭: ‬

‭- ‬هذا‭ ‬عمي‭ ‬سليمان؛‭ ‬إليّ‭ ‬حوشه‭ ‬ديمة‭ ‬ضاوي‭.‬

يُحكى‭ ‬أنّ‭ ‬أضواء‭ ‬البيتِ‭ ‬احترقتْ‭ ‬تزامنًا‭ ‬مع‭ ‬احتراق‭ ‬قلب‭ ‬الخالة‭ ‬‮«‬رُقية‮»‬‭ ‬على‭ ‬فراق‭ ‬العم‭ ‬سليمان،‭ ‬وشيماء‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بالأمسِ‭ ‬‮«‬سُكّر‭ ‬البيت»؛‭ ‬أضحتْ‭ ‬ملحًا‭ ‬أُجاجًا‭ ‬منثورًا‭ ‬على‭ ‬جراحِ‭ ‬أخواتها‭ ‬اللاتي‭ ‬عزّ‭ ‬عليهنّ‭ ‬حالها‭.‬‭ ‬كما‭ ‬قيل‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬مريم‭:‬

‭- ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬بيتنا‭ ‬يذكّرنا‭ ‬بالفرح،‭ ‬سوى‭ ‬طوق‭ ‬الورد‭ ‬الذي‭ ‬نزعته‭ ‬الحياة‭ ‬عنوةً‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬شمومة‭.‬

وفي‭ ‬أحد‭ ‬صباحات‭ ‬شهر‭ ‬أغسطس‭ ‬الحارّة؛‭ ‬حيث‭ ‬يصادف‭ ‬مرور‭ ‬أربعين‭ ‬يومًا‭ ‬عن‭ ‬وفاة‭ ‬العم‭ ‬سليمان،‭ ‬أخبرتْ‭ ‬الخالة‭ ‬‮«‬رُقية‮»‬‭ ‬جارتها‭ ‬عزيزة‭ ‬التي‭ ‬أتت‭ ‬مواسية‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭:‬

‭- ‬‮«‬النَّار‭ ‬هي‭ ‬هي‭ ‬يا‭ ‬عزيزة،‭ ‬سوا‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الأول‭ ‬وإلا‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الأربعين‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى