ثقافة

قصـة الخـوذة

حسين نصيب المالكي

مع‭ ‬إطلالة‭ ‬فصل‭ ‬الربيع،‭ ‬خرجنا‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬للصحراء‭ ‬جنوب‭ ‬شرق‭ ‬طبرق‭ ‬مع‭ ‬صديقي‭ ‬في‭ ‬سيارة‭ ‬طاوية،‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬وصلنا‭ ‬وادي‭ ‬المرا،‭ ‬حتى‭ ‬توقفت‭ ‬بنا‭ ‬السيارة‭ ‬فنصبنا‭ ‬خيمتنا،‭ ‬ووضعنا‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬جلبناه‭ ‬معنا‭ ‬من‭ ‬مياه‭ ‬وتموين‭ ‬وأواني،‭ ‬ثم‭ ‬انطلقت‭ ‬على‭ ‬قدمي‭ ‬في‭ ‬جولة‭ ‬لذلك‭ ‬الوادي‭. ‬

بعد‭ ‬دقائق،‭ ‬عثرت‭ ‬على‭ ‬خوذة‭ ‬حديدية‭ ‬تغوص‭ ‬في‭ ‬الرمال‭ ‬يعلوها‭ ‬الصدأ،‭ ‬تأملتها،‭ ‬كان‭ ‬مكتوب‭ ‬عليها‭ ‬بالإنجليزية؛‭ ‬أنها‭ ‬صنعت‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭. ‬التقطتها‭ ‬وجئت‭ ‬بها‭ ‬للصديقين‭ ‬مسرورا،‭ ‬كأنني‭ ‬حصلت‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬ثمين،‭ ‬غير‭ ‬أنهما‭ ‬لم‭ ‬يهتما‭ ‬بتلك‭ ‬الخوذة‭ ‬القديمة،‭ ‬وبعد‭ ‬انتهاء‭ ‬الرحلة‭ ‬عدت‭ ‬بها‭ ‬لمنزلي‭ ‬ووضعتها‭ ‬في‭ ‬الفناء،‭ ‬ومن‭ ‬حين‭ ‬لآخر‭ ‬كنت‭ ‬أتأملها‭ ‬وأمسح‭ ‬عليها‭ ‬بيدي‭. ‬

سألتها‭ ‬ذات‭ ‬ليلة،‭ ‬من‭ ‬هي‭ ‬ومن‭ ‬أين‭ ‬جاءت،‭ ‬ومن‭ ‬هو‭ ‬صاحبها؟‭ ‬

اجابتني‭ ‬على‭ ‬تساؤلاتي‭ ‬قائلة‭: ‬أنا‭ ‬من‭ ‬بريطانيا،‭ ‬صنعت‭ ‬هناك،‭ ‬وخرجت‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬مجند‭ ‬شاب‭ ‬إنجليزي،‭ ‬ودع‭ ‬أسرته‭ ‬الصغيرة‭ ‬وعينيه‭ ‬تغرورقان‭ ‬بالدموع،‭ ‬قالت‭ ‬له‭ ‬أمه‭ ‬وهي‭ ‬تودعه‭: ‬احذر‭ ‬يا‭ ‬بني‭ ‬العقارب‭ ‬في‭ ‬الصحراء،‭ ‬وخذ‭ ‬الحيطة‭ ‬والحذر‭ ‬في‭ ‬الحرب،‭ ‬ولا‭ ‬تقتل‭ ‬مدنياً‭. ‬

ومضت‭ ‬أيام‭ ‬وليال،‭ ‬ومعه‭ ‬مئات‭ ‬الجنود‭ ‬في‭ ‬سفينة‭ ‬وسط‭ ‬البحر‭ ‬لا‭ ‬يشاهدون‭ ‬إلا‭ ‬سماء‭ ‬زرقاء‭ ‬وبحر‭ ‬أزرق،‭ ‬وعندما‭ ‬رست‭ ‬سفينتهم‭ ‬بميناء‭ ‬طبرق،‭ ‬أطلقت‭ ‬صفارتها‭ ‬فهرول‭ ‬الجنود‭ ‬نحو‭ ‬اليابسة‭. ‬

وكان‭ ‬معهم‭ ‬الجندي‭ ‬البريطاني‭ ‬وعلى‭ ‬رأسه‭ ‬خوذته‭ ‬الحديدية،‭ ‬وهو‭ ‬يحمل‭ ‬كته‭ ‬العسكري‭. ‬وتزاحم‭ ‬الجنود‭ ‬في‭ ‬الشاحنات‭ ‬التي‭ ‬أقلتهم‭ ‬الي‭ ‬الصحراء‭ ‬جنوب‭ ‬شرق‭ ‬طبرق،‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬تسعين‭ ‬كيلومتراً،‭ ‬وسط‭ ‬أزيز‭ ‬الطائرات‭ ‬وهدير‭ ‬المدافع‭ ‬ودخان‭ ‬الحرب‭ ‬المشتعلة،‭ ‬وفي‭ ‬ليلة‭ ‬قمرية‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬الصحراء‭ ‬نزعني‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬رأسه،‭ ‬ووضعني‭ ‬إلى‭ ‬جواره،‭ ‬كان‭ ‬يتجاذب‭ ‬أطراف‭ ‬الحديث‭ ‬مع‭ ‬صديقه‭ ‬الاشقر‭ ‬قائلا‭ ‬له‭: ‬لقد‭ ‬وصلتني‭ ‬بالأمس‭ ‬رسالة‭ ‬بالبريد‭ ‬العسكري‭ ‬من‭ ‬أمي،‭ ‬تقول‭ ‬لي‭ ‬فيها‭ ‬احذر‭ ‬يا‭ ‬بني،‭ ‬وحافظ‭ ‬على‭ ‬حياتك‭ ‬فأنا‭ ‬ليس‭ ‬لي‭ ‬إلا‭ ‬أنت‭ ‬أما‭ ‬بريطانيا‭ ‬فلها‭ ‬الكثير‭. ‬

ومع‭ ‬طلوع‭ ‬شمس‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الصحراء‭ ‬القاسية،‭ ‬فاجأهم‭ ‬العدو‭ ‬الألماني‭ ‬بأسلحته‭ ‬ودباباته‭ ‬ومدافعه،‭ ‬في‭ ‬هجوم‭ ‬بري‭. ‬أصيب‭ ‬ذلك‭ ‬الجندي‭ ‬البريطاني‭ ‬وسقطت‭ ‬عن‭ ‬رأسه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوادي،‭ ‬لم‭ ‬يأخذني‭ ‬أحد‭ ‬معه‭ ‬وكأنني‭ ‬شؤم‭ ‬على‭ ‬الجميع‭. ‬تركوني‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬المعركة‭ ‬مع‭ ‬الذخائر‭ ‬والأسلحة‭ ‬ورحلوا‭ ‬عني،‭ ‬وبعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سبعين‭ ‬سنة،‭ ‬ها‭ ‬أنت‭ ‬قد‭ ‬عثرت‭ ‬علي‭ ‬وأكرمتني‭ ‬واحتفظت‭ ‬بي‭ ‬في‭ ‬منزلك‭..‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى