مع إطلالة فصل الربيع، خرجنا في رحلة للصحراء جنوب شرق طبرق مع صديقي في سيارة طاوية، ما إن وصلنا وادي المرا، حتى توقفت بنا السيارة فنصبنا خيمتنا، ووضعنا فيها ما جلبناه معنا من مياه وتموين وأواني، ثم انطلقت على قدمي في جولة لذلك الوادي.
بعد دقائق، عثرت على خوذة حديدية تغوص في الرمال يعلوها الصدأ، تأملتها، كان مكتوب عليها بالإنجليزية؛ أنها صنعت في بريطانيا. التقطتها وجئت بها للصديقين مسرورا، كأنني حصلت على شيء ثمين، غير أنهما لم يهتما بتلك الخوذة القديمة، وبعد انتهاء الرحلة عدت بها لمنزلي ووضعتها في الفناء، ومن حين لآخر كنت أتأملها وأمسح عليها بيدي.
سألتها ذات ليلة، من هي ومن أين جاءت، ومن هو صاحبها؟
اجابتني على تساؤلاتي قائلة: أنا من بريطانيا، صنعت هناك، وخرجت على رأس مجند شاب إنجليزي، ودع أسرته الصغيرة وعينيه تغرورقان بالدموع، قالت له أمه وهي تودعه: احذر يا بني العقارب في الصحراء، وخذ الحيطة والحذر في الحرب، ولا تقتل مدنياً.
ومضت أيام وليال، ومعه مئات الجنود في سفينة وسط البحر لا يشاهدون إلا سماء زرقاء وبحر أزرق، وعندما رست سفينتهم بميناء طبرق، أطلقت صفارتها فهرول الجنود نحو اليابسة.
وكان معهم الجندي البريطاني وعلى رأسه خوذته الحديدية، وهو يحمل كته العسكري. وتزاحم الجنود في الشاحنات التي أقلتهم الي الصحراء جنوب شرق طبرق، بأكثر من تسعين كيلومتراً، وسط أزيز الطائرات وهدير المدافع ودخان الحرب المشتعلة، وفي ليلة قمرية هناك في الصحراء نزعني من على رأسه، ووضعني إلى جواره، كان يتجاذب أطراف الحديث مع صديقه الاشقر قائلا له: لقد وصلتني بالأمس رسالة بالبريد العسكري من أمي، تقول لي فيها احذر يا بني، وحافظ على حياتك فأنا ليس لي إلا أنت أما بريطانيا فلها الكثير.
ومع طلوع شمس اليوم التالي في تلك الصحراء القاسية، فاجأهم العدو الألماني بأسلحته ودباباته ومدافعه، في هجوم بري. أصيب ذلك الجندي البريطاني وسقطت عن رأسه في ذلك الوادي، لم يأخذني أحد معه وكأنني شؤم على الجميع. تركوني في أرض المعركة مع الذخائر والأسلحة ورحلوا عني، وبعد أكثر من سبعين سنة، ها أنت قد عثرت علي وأكرمتني واحتفظت بي في منزلك..