الميدان.. ذاكرة طرابلس المنسية
في قلب العاصمة طرابلس وبين العمران القديم وحيث تضحج الأصوات والحركة ويعبر الناس عن احتجاجاتهم ورفضهم او فرحهم بالقرب من رائحة البحر المالح، ينبض ميدان الشهداء بروح لا تخبو، مهما غطّتها سحابة الإهمال أو طمست معالمها يد التغيير. هذا الميدان، الذي يقف شامخًا كذاكرة حية للمدينة، ليس مجرد مساحة مفتوحة تحيط بها المباني، بل هو شاهد على قصص أجيال وصراعات أمم وحكايا مسجلة
حمل الميدان أسماءً عدة، لكنه ظل دومًا قلب طرابلس النابض. في عهوده سابقة كان يسمى بـ”الساحة الخضراء”، حيث كان يكتسي بالأشجار والنوافير التي كانت تهمس بألحان الحياة. بعد ذلك، أصبح “ميدان الشهداء”، تخليدًا لأولئك الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل الكرامة والوطن.
في ذروة مجده، كان ميدان الشهداء مرآة تعكس التنوع الثقافي والاجتماعي لطرابلس. كان مكانًا يجتمع فيه الكبار والصغار، ويجذب له الليبيون من كل المناطق والمدن حيث يروي كل حجر فيه قصة عن زخم الحياة اليومية، من أسواق مكتظة بعطور التوابل والأقمشة الملونة، إلى مواكب الاحتفالات الوطنية، وحتى اللحظات البسيطة التي تجمع الأصدقاء حول أكواب الشاي في المقاهي الصغيرة.
لكن الحاضر حمل للميدان ما لم يكن في الحسبان. فالذي كان منارة للفخر أصبح مكانًا يئن تحت وطأة التغيير غير المبرر. اجتاحت الخرسانة والإسفلت مساحاته، وزُرعت فيه مبانٍ لا تنتمي إلى روحه العريقة. غابت تفاصيله الجمالية التي كانت تروي حكايات الماضي، فحلّت الفوضى محل النظام، وبدأت المعالم الأصيلة تذبل تحت وطأة التحديث غير المدروس والتشويه المخالف للقوانين والحفظ العمراني
لقد أصبح الميدان، الذي كان رمزًا للقيم والهوية، سجينًا للمصالح الآنية. الجدران التي كانت تروي قصص الأبطال أصبحت اليوم تحمل إعلانات باهتة، والميادين التي كانت تنبض بالحياة غدت مجرد معابر للسيارات ومحل بلاطه وزواياه رخام بارد لايحمل اي شبه لطرابلس ولا اهلها
إن إنقاذ ميدان الشهداء ليس مجرد واجب عمراني، بل هو استعادة لروح طرابلس وهويتها. فكما أن الميدان هو مرآة للمدينة، فإن إهماله يعكس غيابًا للوعي بأهمية التاريخ والحضارة. يتطلب الأمر رؤية تجمع بين الأصالة والحداثة، تحترم جمال الماضي وتعيد للميدان ألقه كمكان يروي قصص الأجيال، ويحتضن اللحظات الحاضرة بكل حب.
يظل ميدان الشهداء رمزًا خالدًا، ينادي أبناء طرابلس كي يعيدوا إليه الحياة وان يقفوا ضد اي تشويه يطاله ففي كل حجر فيه، وكل زاوية، وكل ركن، تختبئ قصة تنتظر من يعيد كتابتها ليبقى شاهدًا على أن التاريخ لا يموت، حتى وإن حاولت يد التشويه أن تمحوه.