رأي

كلمات ميدان الشهداء

نجاح مصدق

الميدان‭.. ‬‮ ‬ذاكرة‭ ‬طرابلس‭ ‬المنسية

في‭ ‬قلب‭ ‬العاصمة‭ ‬طرابلس‭ ‬وبين‭ ‬العمران‭ ‬القديم‭ ‬وحيث‭ ‬تضحج‭ ‬الأصوات‭ ‬والحركة‭ ‬ويعبر‭ ‬الناس‭ ‬عن‭ ‬احتجاجاتهم‭ ‬ورفضهم‭ ‬او‭ ‬فرحهم‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬رائحة‭ ‬‮ ‬البحر‭ ‬المالح،‭ ‬ينبض‭ ‬ميدان‭ ‬الشهداء‭ ‬بروح‭ ‬لا‭ ‬تخبو،‭ ‬مهما‭ ‬غطّتها‭ ‬سحابة‭ ‬الإهمال‭ ‬أو‭ ‬طمست‭ ‬معالمها‭ ‬يد‭ ‬التغيير‭. ‬هذا‭ ‬الميدان،‭ ‬الذي‭ ‬يقف‭ ‬شامخًا‭ ‬كذاكرة‭ ‬حية‭ ‬للمدينة،‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬مساحة‭ ‬مفتوحة‭ ‬تحيط‭ ‬بها‭ ‬المباني،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬شاهد‭ ‬على‭ ‬قصص‭ ‬أجيال‭ ‬وصراعات‭ ‬أمم‭ ‬وحكايا‭ ‬مسجلة

حمل‭ ‬الميدان‭ ‬‮ ‬أسماءً‭ ‬عدة،‭ ‬لكنه‭ ‬ظل‭ ‬دومًا‭ ‬قلب‭ ‬طرابلس‭ ‬النابض‭. ‬في‭ ‬عهوده‭ ‬سابقة‭ ‬كان‭ ‬يسمى‭ ‬‮ ‬بـ”الساحة‭ ‬الخضراء”،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يكتسي‭ ‬بالأشجار‭ ‬والنوافير‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تهمس‭ ‬بألحان‭ ‬الحياة‭. ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬أصبح‭ ‬“ميدان‭ ‬الشهداء”،‭ ‬تخليدًا‭ ‬لأولئك‭ ‬الذين‭ ‬ضحوا‭ ‬بأرواحهم‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الكرامة‭ ‬والوطن‭.‬

في‭ ‬‮ ‬ذروة‭ ‬مجده،‭ ‬كان‭ ‬ميدان‭ ‬الشهداء‭ ‬مرآة‭ ‬تعكس‭ ‬التنوع‭ ‬الثقافي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬لطرابلس‭. ‬كان‭ ‬مكانًا‭ ‬يجتمع‭ ‬فيه‭ ‬الكبار‭ ‬والصغار،‭ ‬ويجذب‭ ‬له‭ ‬الليبيون‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬المناطق‭ ‬والمدن‭ ‬حيث‭ ‬يروي‭ ‬كل‭ ‬حجر‭ ‬فيه‭ ‬قصة‭ ‬عن‭ ‬زخم‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬من‭ ‬أسواق‭ ‬مكتظة‭ ‬بعطور‭ ‬التوابل‭ ‬والأقمشة‭ ‬الملونة،‭ ‬إلى‭ ‬مواكب‭ ‬الاحتفالات‭ ‬الوطنية،‭ ‬وحتى‭ ‬اللحظات‭ ‬البسيطة‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬الأصدقاء‭ ‬حول‭ ‬أكواب‭ ‬الشاي‭ ‬في‭ ‬المقاهي‭ ‬الصغيرة‭.‬

لكن‭ ‬الحاضر‭ ‬حمل‭ ‬للميدان‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬الحسبان‭. ‬فالذي‭ ‬كان‭ ‬منارة‭ ‬للفخر‭ ‬أصبح‭ ‬مكانًا‭ ‬يئن‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬التغيير‭ ‬غير‭ ‬المبرر‭. ‬اجتاحت‭ ‬الخرسانة‭ ‬والإسفلت‭ ‬مساحاته،‭ ‬وزُرعت‭ ‬فيه‭ ‬مبانٍ‭ ‬لا‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬روحه‭ ‬العريقة‭. ‬غابت‭ ‬تفاصيله‭ ‬الجمالية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تروي‭ ‬حكايات‭ ‬الماضي،‭ ‬فحلّت‭ ‬الفوضى‭ ‬محل‭ ‬النظام،‭ ‬وبدأت‭ ‬المعالم‭ ‬الأصيلة‭ ‬تذبل‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬التحديث‭ ‬غير‭ ‬المدروس‭ ‬والتشويه‭ ‬المخالف‭ ‬للقوانين‭ ‬والحفظ‭ ‬العمراني

لقد‭ ‬أصبح‭ ‬الميدان،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬رمزًا‭ ‬للقيم‭ ‬والهوية،‭ ‬سجينًا‭ ‬للمصالح‭ ‬الآنية‭. ‬الجدران‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تروي‭ ‬قصص‭ ‬الأبطال‭ ‬أصبحت‭ ‬اليوم‭ ‬تحمل‭ ‬إعلانات‭ ‬باهتة،‭ ‬والميادين‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تنبض‭ ‬بالحياة‭ ‬غدت‭ ‬مجرد‭ ‬معابر‭ ‬للسيارات‭ ‬ومحل‭ ‬بلاطه‭ ‬وزواياه‭ ‬رخام‭ ‬بارد‭ ‬لايحمل‭ ‬اي‭ ‬شبه‭ ‬لطرابلس‭ ‬ولا‭ ‬اهلها

إن‭ ‬إنقاذ‭ ‬ميدان‭ ‬الشهداء‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬واجب‭ ‬عمراني،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬استعادة‭ ‬لروح‭ ‬طرابلس‭ ‬وهويتها‭. ‬فكما‭ ‬أن‭ ‬الميدان‭ ‬هو‭ ‬مرآة‭ ‬للمدينة،‭ ‬فإن‭ ‬إهماله‭ ‬يعكس‭ ‬غيابًا‭ ‬للوعي‭ ‬بأهمية‭ ‬التاريخ‭ ‬والحضارة‭. ‬يتطلب‭ ‬الأمر‭ ‬رؤية‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الأصالة‭ ‬والحداثة،‭ ‬تحترم‭ ‬جمال‭ ‬الماضي‭ ‬وتعيد‭ ‬للميدان‭ ‬ألقه‭ ‬كمكان‭ ‬يروي‭ ‬قصص‭ ‬الأجيال،‭ ‬ويحتضن‭ ‬اللحظات‭ ‬الحاضرة‭ ‬بكل‭ ‬حب‭.‬

يظل‭ ‬ميدان‭ ‬الشهداء‭ ‬رمزًا‭ ‬خالدًا،‭ ‬ينادي‭ ‬أبناء‭ ‬طرابلس‭ ‬كي‭ ‬يعيدوا‭ ‬إليه‭ ‬الحياة‭ ‬وان‭ ‬يقفوا‭ ‬ضد‭ ‬اي‭ ‬تشويه‭ ‬يطاله‭ ‬ففي‭ ‬كل‭ ‬حجر‭ ‬فيه،‭ ‬وكل‭ ‬زاوية،‭ ‬وكل‭ ‬ركن،‭ ‬تختبئ‭ ‬قصة‭ ‬تنتظر‭ ‬من‭ ‬يعيد‭ ‬كتابتها‭ ‬‮ ‬ليبقى‭ ‬شاهدًا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬التاريخ‭ ‬لا‭ ‬يموت،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬حاولت‭ ‬يد‭ ‬التشويه‭ ‬أن‭ ‬تمحوه‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى