ليس ليَّ مزارع للنخيل، و لا أملك بعد على الأقل، حتى نخلة، وبالتالي، لا عراجين عندي لأعلقها على قبور المتوفين، كما اقرأ أحيانًا لبعض المتحذلقين قولهم، الذي يلقونه في غير موضعه، )لما عاش مشتاف في بلحه .. ولما مات علقوله عرجون( … فلا أملك إلا الشجون …
كما أنني لا اعتصر إلا مرارة الفقد بين الحين، والآخر كمُحبٍ لزملاءٍ، وزميلاتٍ، ورفاقٍ، حتى وإن فرقتْ بيننا شُعَبُ الطريقِ في الحياة، فقد نحتوا في الذاكرة مآثر تحتفظ بها النفس مخلفةً فصولاً للسعادة، غطتْ الوجدان وترسخت لتبقى كمخزونٍ يُستدعي عند الحاجة، وهي في مجملها من أثمن ما «قد» يمتلكه المرءُ في سنين عمره،لكن جدران الصمتِ تتفتت أمام حجم الصدمات ببعض حالات الفقدان، أو حتى الشعور بالخذلان أحيانًا، فكما حصل معي منذ أيام، إذ وأنا أتصارع مع ألم فقدان رفيقة عزيزة على القلب، وإذا بأخرى تلحق بها …
المختلف هنا هذه المرة، يتمثل في أن الصديقة، والرفيقة اللاحقة، لم تنلْ حظها من التنويه بمغادرتها، رغم مفصلية حضورها لزمن في العمل الإذاعي المرئي، والمسموع .. مع مأساوية مغادرتها الحياة …
إنها المذيعة «وفاء بهاء الدين» الليبية التي أطلقتها نسمات الشام، وهي صبية، آذنةً لها بمعانقة وطنها الأم ليبيا، لنراها في السبعينيات تتمختر بزهوٍ كالفراشة بين أروقة الإذاعة بمقرها في شارع الشط، وكنتُ حينها مشتعلاً بالحماس، أقضي جُلَّ وقتي في الإذاعة بين عمالقة، أستشعر في آحايين كثيرة، حجم النعمة التي منحها ليَّ الله، بمزاملتهم ومراقبتهم للتعلم منهم …
في دمشق كان تمركز الليبيين في سوريا في مناطق لعل أبرزها وأكثرها شهرة حينها، منطقة «الصالحية» وتحديدًا حي المغاربة – لعله نسبة إلى ليبيا – وبالنسبة للعزيزة وفاء بهاء الدين فأصولها ترجع إلى مدينة الخمس، وكذلك من بقى هناك في دمشق كابنة خالها الفنانة المعروفة، السيدة/نجاح عبدالرحمن حفيظ، والمشهورة في الوطن العربي عبر مسلسلات دريد لحام «غوار» والتي عُرفت بشخصية «فطوم حيص بيص» في مسلسل «صح النّوم».
بالعودة إلى «وفاء بهاء الدين»، فقد أضفى حضورها على الإذاعة روحًا تدغدغ المشاعر، وأعطتْ وهجًا حتى للحيطان، فقد جاءت متحرَّرة من كثير من العقد، دون فقدان الالتزام بخاصيات الأدب، والحشمة، واللياقة …
حينها، عندما تساءلنا و«قصقصنا»، وهي سمة لازمة للشخصية البشرية عمومًا، خاصة عند شعوبنا، عرفنا أنها أتت ضمن عملية استقطاب لسيدة المسرح الليبي العزيزة «سعاد الحداد» غفر الله لها .. والحقيقة أننا سُعدنا بوجودها، كون أي إضافة إلى المجال خاصة من العنصر النسائي، حتمًا ستعطي وهجًا جديدًا، المرفق في حاجة له .. ويبقى أمر استعدادها وقابليتها، وهو ما سيوضحه الزمن …
اللحظة الفارقة في هذا الزمن جاءت بسرعة البرق، إذ بعد أيام قليلة جدًا من وصولها للإذاعة، وكان ذلك عام 1974 تقريبًا، وأنا أتوجه للأستوديو لتسجيل برنامجي اليومي الذي كان مثيرًا لاهتمام كثير من المستمعين حينها، التقيتُ مصادفةً بوفاء صحبة كبير المذيعين ورئيس القسم، الأستاذ «ناصر عبدالسميع» ليستوقفني، وبشخصيته التي يغلفها الحزمُ والجدية قال ليَّ وهو يقدم ليَّ وفاء :
«وفاء» مذيعة جديدة، وأريدك أن تهتم بها وتدربها .. خذها معك، واتفقا معًا على الكيفية، والوقت … !!!
كما قلتُ، فالابتسامة ووفاء وجهان لشخصية واحدة، وكياستها وحسن خلقها، قادها بعد السلام، لأخذ خطواتٍ بعيدة عني وعن الأستاذ ناصر، حتى لا تحرجني بقول شيء – قد – لا يمكنَّني قوله في حضورها … اقتربتُ من الأستاذ ناصر محاولاً الخروج من هذا المأزق المفاجئ، وهمستُ له متمتمًا، كيف أدربها؟!، أنا أصلاً أحتاج من يدربني … وبعنجهيته الأبوية، أردف :
)لا لا لا .. تقدر، أنتَ خليها زيكَ بس، و وجهها(، وأقفل الحوار … وتركني الأستاذ واختفى وقد بلعه رواقٌ من أروقة الإذاعة …
من هذه اللحظة أصبحتْ وفاء متدربة عندي ..
حاولتُ الإسراع للملمة الموقف – المربك والمفاجئ -، وكانت الابتسامات منقذه لتوزيعها لحين، مع عبارات الترحيب البروتوكولية، معطيًا إيحاء بإبعاد المخاوف عنها وتسهيل المهمة ودافعاً لها، كلُّ هذا وأنا متسمرٌ معها في الرواق، وأتيتُ على كل ما يمكن أن يقال، وهي تنتظر ما الذي سأوجه به، وأنا أفكر في كيف سأباشر تدريبها .. ؟، ويبدو بأن هذا الموقف هو من زرع جنين مرض الزهايمر، أو ما يشبهه عندي، لينمو عندي مع السنين، فإذا وقفتُ في منتصف الطريق، تضيع مني الخريطة أين كنت أنا ذاهب، وما كنتُ أنوي أن أفعله … لزمن على الأقل …
فجأة .. تذكرتُ أنني كنتُ متوجهًا للأستوديو فقررتُ اصطحابها معي للأستوديو الرئيس )S..A..R( لتراقب تحضيري للبرنامج اليومي، ولأنه لا منهج محدَّد للتدريب كان حاضرًا، ولأنني لا اؤمن بكثرة التنظير، عمدتُ لشرح كل حركة، أو ترتيب أقوم به بالتفصيل الممل، ثم قرّرتُ إشراكها في تقديم البرنامج بشكل يومي وبحضور زمني متدرج في الطول، وغيرتُ حتى اللحن المميز للبرنامج، ليستمع المستمعون إلى أن البرنامج من تقديم : )عزالدين عبدالكريم، و وفاء بهاء الدين(، بعد زمن .. وكأن المستمعين قد ترسختْ عندهم حتمية المشاركة في تقديم البرامج بيننا، لعله لموسيقية الاسمين ، فأصبح وجودي مع وفاء يوميًا، وحتى في برامج أخرى، مسألة معتادة لدى المستمعين، وأصبح اللقاء العملي لإنتاج البرامج هو المنهج التدريبي الرسمي، مع ما يصاحب الإنتاج التنفيذي من توجيهي – الحريص - لإتمام مهمتي وذلك في الأمور الفنية التفصيلية، المتعلقة باللغة، والوقفات، والإلقاء الخ … وسرعان ما تشبعت هي بالأساسيات وأصبحت أكثر سلاسة، وانطلقت «وفاء بهاء الدين» لاحقاً، لتقتحم حتى الشاشة الصغيرة كمذيعة ربط، وشكلت روحها الودودة والمرحة التلقائية عنصر جذب لدى المشاهدين، حتى أُطلق عليها «جميلة الشاشة الليبية»، فقد استطاعتْ ولسنوات أن تُحدث إضافةً للعمل الإذاعي، وخيارًا حاسمًا للبرامج الإذاعية المسموعة، والمرئية …. ثم وبعد سنين، أخذت الحياة كلٌ منا في طريق، وغادرتُ البلاد، وكنا نلتقي لاحقًا بالمصادفة…
في هذه الفترة الحالية وهذه الأيام، بشوق كنتُ انتظر اتصالها، خاصةً وأنها فوجئتْ وسُعدتْ بوجودي في البلاد مرة أخرى، ومعرفتها لمخططي الاستقرار، لكن ظروف الحياة مع توعك صحتها مؤخرًا كما قيل ليَّ، حال دون ذلك، واختار لها الله الانفكاك من هذه الحياة … وكأني أراها كما كانت فراشة مزهوة على الأرض، ما زالت حيث هي تسبح في الملكوت وعوالمه الخفية كالفراشة، فلا يليق بها إلا الخُيلاء، أما هنا وما تركت على الأرض ومع حالتي، فما زالت آثار ابتساماتها وضحكاتها محفورة في الوجدان،
إلى جنة الخلد أيتها العزيزة … وستبقين إضافةً لا تُنسى لزمن لا يُنسى …