
أعراض تشوهات مزمنة بدأت تظهر على المشهد الفني، والثقافي المحلي، وعدوى تجتاح عامة المجتمع وتبعات ذلك سوف تكون صاعقة وكارثية على المدى القريب والبعيد بشكل يدعو للقلق وربط حزام الأمان..!
والشيء الأكثر وضوحا مع تأزم المشهد أننا سوف نشهد مزيدا من موجات القبح والأدعاء وزيادة مفرطة في استهلاك النرجسية والأنا.
اتساءل ما هو مفهوم البطولة لدى البعض..!!؟.
هل بالاختلاس والعمل على تجارب جاهزة دون جهد أو عناء وكل هذا فقط لأجل إشباع شهونية أنا موجود ونيل الأعجاب أو لأجل التكريم الزائف الذي يفتقر للمعرفة والخبرة والتخصصات فالكل يتحدث عن النهايات دون أن تكون هناك بدايات اصلا..!
الانتشاء والاحساس بالنجاح السريع الذي يحققه دخلاء المهنة هو في الواقع مجرد وهم يغذي الوثنية النرجسية الحديثة التي يسعى اتباعها التقرب لارضائها بقرابين الخسة والندالة والانحطاط..!
لا أحد يشعر بالذنب والمسؤولية حول كل هذا العبث الجميع يتسابق على أن يكون في كل لحظة فارس داخل الفضاء الأزرق واتساءل بذهول أليس لهؤلاء وظائف وأسر وعبادات تحتاج التفعيل..!؟
الكوارث تتفاقم وتصبح ترسبات تتصلب مع الوقت ليكتمل المشهد بظهور كائنات تتقمص دور الفنان والمهندس، أو المصمم وغيرها من الوظائف والمهن لقد أصبحوا في ليلة وضحاها من ضمن المشهد الفني وأصبح لهم مراسم واسماؤهم تملأ الصحف والمواقع الاجتماعية بأقلام كتَّاب وصحفيين غير متخصصين وغير مكترثين بجرمهم الذي يسترسل في ترسيخ التفاهات كيف تجرؤوا؟، ومن أين لكم كل هذه الشجاعة في مواجه انفسكم ومواجهة أخلاق المهنة..!!.
ويتسع الشرخ بقاعات ومواقع تأسست بسرعة البرق تفتح أبوابها باكرًا للجميع اعتقدنا في لحظة وهم أنها ستكون فضاءً لنشر القيم الجمالية الرفيعة وملاحقة الإنتاج الفني الحقيقي في عقر داره لكنها سكنت أرضها دون حراك تمجد الإنتاج الهابط واللوحة الواقعية التى تفتقر للخيال والإبداع وقيمت أسعار الأعمال بأسعار الخضراوات كلها ذات قيمة واحدة رغم اختلاف ألوانها وأشكالها وفوائدها ودون الاستعانة بالمتخصص وأهل الذكر فالأمر لا يحتاج… لأن الجميع في سبات… القاب واوصاف رنانة يمتطيها الكثير دون وجود شواهد لكنها تربك البسطاء ويصدقها قليلي الحيلة..!.
والشيء المؤكد من كل هذا أن الجميع يعلم جيدًا أن الإدعاء وعالم الجريمة في كفة واحدة…
معارض تقام هنا وهناك كل يوم لكن هذا لا يعني أن هناك نهضةً فنية حقيقية يشهدها الوسط الثقافي فما يعرض ليس نتاج مسارات حقيقية وفلترة وإنما إنتاج مبتذل ومكرر في الموضوع والتقنية والغاية إما أن يكون تقليد على تجارب أخرى جاهزة وقد أتاحت التكنولوجيا خاصية الاطلاع على تجارب وثقافات أخرى بسهولة وأكثر يسر أعطت الكثير فرصة الاختلاس بدم بارد دون رقابة أو تأنيب ضمير..! وأعمال زخرفية أخرى يغرق بها المشهد الفني تغازل المتلقي البسيط في هذا الاتجاه وخزائن الجهات العامة بأكثر انتباه..! والنصيب الأكبر والأكثر شعبية كانت تناله اللوحة السياحية البائسة.
وكل هذا الهرج جاء عن محدودية في المعرفة وشح الأخلاق وغياب المتخصص والأمية الصارخة للمجتمع بكل أطيافه في هذا الاتجاه كانت المناخ الرطب لانتشار وباء اللا مبالات والنرجسية الحديثة المدعومة بـ)السوشل ميديا( التي حققت للجميع اعتلاء دور البطولة دون عناء وعفتهم شر القتال..!
رسامون ظهرو فجأة دون سابق تنبيه أو بدايات يتصدرون المشهد الفني بالحضور الشخصي وبعض التراهات في القول والفعل بشجاعة قل مثيلها دون استحياء..!
أزماتنا ليست صدفة فالأمر ليس بالسهولة التي تصورها هؤلاء الدخلاء على أنها فقط مجرد ساحة لاستهلاك النرجسية وإشباع الذات بل الأمر يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير فهو كارثي بكل المقاييس على الصعيد الشخصي فهو يفضح أخلاق فاعله ومحدودية معرفته وعدم إحساسه بالمسؤولية تجاه أفعاله العبثية وانعكاسها على المجتمع الذي سوف يناله نصيب أكبر من التشويه الذى سوف يرسم الضعف في ملامح المشهد الثقافي المحلي أمام باقي الشعوب والأمم وهذا له تداعيات مقلقة وخطيرة والتى بدورها ترسخ صورة مربكة حول هذا المكان محدثة فجوة عميقة بين ماضي مفعم بالحضارة والجمال وعبثية مدعي يسعى لإرضاء نزواته المرضية الضيقة وعلى هذا الأساس يتم قراءة المشهد من الطرف الآخر من كل الاتجاهات ومن خلاله يتم التواصل والتعامل مع المكان سياسيا واقتصاديا وثقافيا وبنفس المستوى والوزن الذي قدمت به نفسك وانعكاسه السلبي سوف يطول صورة الوطن بأكمله…
ويزداد الفعل قتامةً عندما يجهل هذا المدعي أنه قطع أرزاق كثير من المبدعين، والمثقفين الذين ضحوا بكل شيء لأجل مشروعهم الفني والإنساني الكبير عبر سنين من البحث والاطلاع والمثابرة والعمل ثم يأتي هذا المدعي مستغلًا أمية المجتمع في هذا الاتجاه ويجعل منهم في لحظة مجرد خرافة تتدحرج نحو الاندثار…
يوميًا كنت على تواصل مع الصديق الفنان )علي الزويك( رحمه الله إما بالزيارة، وهي قليلة مقارنة بالاتصال الهاتفي اسأله عن صحته، وأحواله بشكل عام، وهل زارك، أو اتصل بك أحد..؟.
يجيبني بصوت يائس :
) لا لم يتصل أحد فالمصلحة قد انتهت(.
دائمًا كانت الحقيقة هي أولى ضحايا العبث وكثير من المبدعين تراجعوا وخسروا وظائفهم وثقتهم بالمحيط حتى ساءت حالتهم النفسية والإنتاجية وأصبحوا أقرب إلى العزلة والمرض أمام هذا الوباء الذي اجتاح المشهد بشكل مرعب ومخيف…
في مساحة لا تتعدى 2 متر مربع كان العملاق )علي الزويك( قد قبر حيًا في غرفة باردة قبل أن ينتقل إلى دار الحق يصارع الوحدة والذكريات وكثيرًا من الخذلان والمرض…
عرفتُ )الزويك( منذ بداية التسعينيات إنسانًا وفنانًا مثقفًا بشكل يدعوك للانتباه، وإعادة قراءة الحياة من زوايا أخرى أكثر عمقًا، وأكثر نقاءً فهو بمثابة مدرسة ومكتبة متنقلة تعج بالمعرفة والحياة ينثر جمال روحه وفكره على الجميع دون ترفع وانتظار الشكر والإطراء.
الجميع اغترف نصيبًا، وافر من تلك المعرفة والخدمات الإنسانية التي كان لا يتوانى لحظة عن تقديمها للأصدقاء، والغرباء على حد سواء لكن الجحود يبقى أحد سمات أهل هذا الوسط والمكان…
أتذكر جيدًا كيف كان بعض المسؤولين، وغيرهم يسارع في البحث عن )الزويك( عندما كان ينتهي )رأس النظام السابق( من القاء إحدى خطبه السياسية ليسعفهم بالتحليل والقراءة المعمقة حول فحوى ذلك الخطاب ليتمكنوا بدورهم من تحويلها إلى مادة إعلامية خالية من التأويل والأخطاء تبقيهم في مناصبهم وتنجيهم من غضب السلطة الحاكمة آنذاك..!
قبل وبعد )الزويك( لم يكن ولن يكن المشهد الفني المحلي يتمتع بهذا الكم من المعرفة في ثقافة عالمية اللوحة وبهذا القدر من الاطلاع على المدارس والأساليب المحدثة في تاريخ الفن وبعدة لغات والقدرة على قراءة الإنتاج الإبداعي بشكل احترافي متمكن من أدواته التحليلية وفاعل ومؤثر في تطور المشهد التشكيلي محليًا وعربيًا إلى جانب حضوره الشخصي الذي كان لافتًا أينما ذهب، وأينما حل.
الحياة تخسر جاذبيتها أمام هذا السيل من المعاصي والخطايا والسيئات التي ترتكب على أنقاض تجارب إنسانية إبداعية ضحتْ بكل شيء لأجل الصالح العام … سلوك منحط أدمنه قطع عريض من البشر كنوع من الارتياح وليس كنوع من الانتشاء ما بعد النجاح…
بأيديهم يصنعون هؤلاء الدخلاء أزماتهم ثم يرتعبون من نتائج أفعالهم!!.
ألا يعلم هؤلاء أنهم شركاء في رسم مشهد قاتم لحقبة من تاريخ هذا المكان، أم راق لهم ما هم فيه..!!؟
الجميع سارع في أداء الواجب بنشر خبر وفاة «الزويك» وغصت المواقع بالصور، وسيرة الفنان وبعضًا من الرثاء وهناك من حاول نشر صور الفقيد لكنها لا تخلو من كيانه هو أيضًا داخل مساحة الحدث أنه الواجب المستحدث في تقديم العزاء..!
أين كان كل هذا الاهتمام والحزن عندما كان يستغيث )الزويك (!!؟
لكن كل هذا كان مجرد ترند trend لمواكبة اللحظة واسترسال نظام التفاهة وزوال المفاهيم ورواج السطحية وانقراض المشاعر، والاحاسيس…
لن يعود ويتكرَّر هذا النجم الساطع في سماء ليبيا وسوف تلاحقكم لعنة
)الزويك( والأجيال القادمة وأنتم تدنسون كل شيء أيها العابثون ولو كنتم في بروج محصنة.