استضاف مركز التوثيق والمحفوظات «الجهاد» أحد أبرز العاملين في حقل الأدب الشعبي كتابةً وجمعاً ونشراً، صديقنا الكبير «أحمد النويري» ممن إلتقيناهم بهذا الدرب في ستينيات القرن الماضي، عندما أسس الأستاذ «خليفة التليسي» وزير الإنباء والإرشاد في تلك الأيام الإدارة العامة للفنون والثقافة، ونقلَ إليها عددًا ممن آنسَ فيهم الأهلية، ضامّاً إليها فرقتي «المألوف والفن الشعب» اللتين أسسهما الأستاذ عبد اللطيف الشويرف وقد كُلِّفتُ في الإدارة المذكورة للآداب الشعبية عقب نقلي من ديوان الوزارة عندما شغلت السكرتير الإداري المساعد، هو نقل وقّعه التليسي مُنفِّذاً وتكتّم عليه، فحمّلْتُ مسئوليته ظلماً وعدواناً لغيره، إذ لم يبُحْ رحمه الله بالسِرِ حتى آخر السبعينيات، تلك المرحلة التي اتجهت فيها للنشاط الخاص، وكان التليسي شديد القلق من أن يبتلعني ذلك النشاط فأترُك الثقافة التي يراها الأجدى كما لم يسأم الحديث والمحاولة، فيما كنت واثقاً من أن ما أنا ممتلئ به تجاه الهم العام كفيل بأن يحفظ جدوة الفكر على ما عداها، فأبقى أكثر انحيازاً للفكر الملتزم، الأمر الذي أعتقد أنه ظل شديد الوضوح في كل ما قدِّرَ لي أن أتحدث به وأُدونه في جميع الصفات الاعتبارية التي طالما حرصت عليها، ولم يبخسني المرحوم التليسي حقى في شهادته التي أدرجتها ضمن ما نُشر عن مساربي عسى أن أُعْذَر في إفشاء هذا السر الذي ينفع ولا يؤذي، ومع عدم التقليل مما ساهم به النويري ونظراؤه في مسيرة الأدب الشعبي والاعتزاز بدعوته ونظرائه للإسهام بما لديهم كما وعد مدير المركز، فإن الذي لا بد أن يكون واضحاً هو أن أدبنا الشعبي لن يحقق شيئاً يُذكر من جلوس بعض متابعيه ليلقوا هذا النص أو ذاك ما بالك أن يكون مكروراً، بقدر ما سيكون عظيم الجدوى عند استدعاء تلك التجارب الخالدة التي عبّرَ بها الكبار عمّا حلَّ بهم من نكبات الزمن وفادح خساراته، فلم يتخذوا من شعرهم سبيلاً للوصول أو استدرار العطف، حتى وهُم يفقدون من ذرياتهم أغلاها ومن الأحبّة أوفاهم، فكان قولهم تعبيراً عن التماسك وتلميحهم أفصح من تصريحهم، ومثلما جسّدَ الأوائل حبس العقيلة أجاد الأواخر تجسيد ما استشعروه من سد التراب وفرقة الأصحاب وهدم البيوت على رؤوس الأشهاد، وإذا كانت تلك النصوص الخالدة قد حَدَت بمثقفٍ مثل على الساحلي، الذي نال أرفع المناصب وخيلَ للبعض أن يتجاهلوه دون مجايليه، للاعتصام بالجامعة وتبنّي النُجباء من الطلبة لإنجاز ذلك الأثر الكبير «ديوان الشعر العربي» عندما حمل أبلغ الرسائل للرّد على ما ساد في سبعينيات القرن الماضي من المظالم التي طالت القوم في كل ما لديهم، وكان صوت الشاعر الشعبي أقوى ألسنتهم وأمضى أسلحتهم، وليس لنا اليوم سوى العودة إلى ذلك الكنز لنخص بالدراسات نصوص أمثال معتوق الرقعي وسيف النصر، ومصطفى عبيد، وغيرهم كثر، ونعهد لأمثال علي برهانة وغيره من المختصين بتكليف من تؤنَس فيهم المقدرة لعلنا نطور تلك البدايات التي بدأها قادربوه وامتاز على الكثير من معاصريه، لعلنا ننقذ هذا الكنز من عبث الأدعياء وهواة التسطيح و«الهدرزة» المفيدة في جلسات السمر، وليس حلقات الحوار واستخراج النصوص الثمينة من أكوام الحجارة، ويومئذ يستطيع مركز التوثيق أن يثق بأن ما يفعله في اتجاه صون الأدب الشعبي والأعمال التي تُخلّدُ منه وتحمل الموقف الإيجابي تجاه الذين يُصرّون على وضع العصا في الدواليب أمام المؤسسات التي اكتفى مسيروها بالحفاظ على ما اكتسبت من الاحترام وتُصر على صون الحد الأدنى منه على الأقل، ومن يخرج بأقل الخسائر يُعتبر من الرابحين.