
أُريد جوابًا لما يقوله «جدي» ياأمي؟! اصدقيني القول، لو صدقتُ قصة «جدي» عن مقدمة، وجهي الديكية، فأنا مسخ يا «أمي»! أنا فقيس الرمل يا «أمي»! غسلتُ وجهها بدموعي، جمعتُ طرفَ ردائها أريدُ أن أبتر هذا التشوه الديكي!
نأتْ «أمي» عن كلام «جدي»؛ واستنكرتْ قبوله، أو حتى سماعه؛ وردّته إلى حالة الخبل التي يعيش.
دارتْ «أمي» مكانها، حاست أمام خزانتها البُنّية القديمة التي تعلقتْ بها ومنحتها الجدار الكبير متحدية بوجودها الموبيليا الجديدة كضرة مستميتة، حشرتْ فيها رأسها تخفي توترها في لملمة لحاف منصرم من أحد الرفوف، وأنا أجتهد في التوسل إليها، التفتتْ إلي، جرتني من ذراعي، وهي تكتم ريبة، أعادتني حافة سريرها بلطافة، ذلك قبل أن تطلب مني الإنصات، وهي تدلي بقصة بعيدة ومعقدة لم تنزع شوكة «جدي»، منهمرة أمي بسرد متسارع:
يتدافع النّاسُ عقب كل صلاة جمعة، نحو نصب الشهيد وسط ميدان البلدة القديمة، يتسارعون للتحلق حول حلبة مصارعة الديكة بعد الصلاة مباشرة، إنها مثيرة ومشحونة، وحدث مهم لأغلب المتحمسين للفوز والخسارة؛ فالمدربون يقضون أوقاتاً طويلة في تهيئة ديكتهم وتحضيرها للمباراة الحاسمة، مستغلين العداء الشديد الذي تبديه الديكة عند التلاقي؛ يهجم الديك بقفزة عالية وقوية موجهاً ضربة عنيفة بمنقاره، عادة ما تكون في رأس خصمه، تتبعها ضربات قوية وسريعة متتالية بمخلبه الحاد على عينيه وصدره، متلقيا بدوره ضربات مماثلة، يصيح المتفرجون مشجعين وداعمين، ويزهو مدربو فريقهم كلما لاحت من ديكهم بوادر فوز وقوة، يتابع المدربون ديكتهم باهتمام وحذر وفخر، بعض النفوس الضعيفة يثنيها المشهد الدامي عن متابعة الصراع الذي يظهر عدم التكافؤ بين الديكين، وقد بدأ الانهيار، والإعياء على أحدهما والدم يتقاطر من عضلات صدره وساقيه، متناثرًا ريشه في أجواء الحلبة الساخنة ويسقط مترنحًا، وقد يصل الأمر بانعدام التكافؤ إلى أن يمزق الديك القوي غريمه حيًا إربْا إربْا، وهو يئن تحت مخالبه معلناً عن هزيمته، ليرميه مدربه خارجا فقد ألحق به الهزيمة أيضا، يهنئ المدربون بعضهم بروح رياضية، يحتفي الجمهور بالديك الفائز، يقدمون له الموائد التي يدسونها من خبزهم لجولات جديدة، تزيد «أمي»: غالا النَّاس في التنافس على تربية الديكة في مزارعهم لرواج بيعها للمدربين والمنظمين الذين أسرفوا في صقلها وتدريبها، وتوسيع حلبات صراعها من جديد!
«جدي» !
)قبل ذلك لا بد أن تقتنع بأن أقوال جدك اليوم لا يعتد بها، «جدك» ممسوس يخلط الأمور، وهو متأثر بقصة )لعنة الديكة( هذه والمتواترة عن «حكيم» البلدة، ورواها لنا مرارًا قبل عتهه الذي يسميه طبيبكم اليوم بالزهايمر، والتي حفظناها هكذا من «جدك» عن ظهر قلب(.
تسترسل:)أسرف النَّاسُ في تربية الديكة برعاية رسمية من قبل مدربين مهووسين بنفخها وترويضها وكمال أجسادها؛ أغرقوا سوق البلدة بعلفة خاصة بالديوك؛ مدعومةبهرمونات النشاط، والذكورة؛ بهايقطع بمنقاره أعناق الدجاج الضعيف والكتاكيت ويلقحها مستسلمة؛ علفة مطوّرة تتحكم حتى بالرسم على ريش الديك بالألوان التي يرغبها المالك؛ وحتى مختومة بختم السيد لو رغب! علفة مطورة يمكنها التحكم في عواطف الديك وانفعالاته إلى درجة يستلذ فيها موته مصطدما بحاجز ديكة (نافخين ريشهم عليه)! بلغت فنون رعي الديكة سقفا غير مسبوق؛ حتى إن بعضها أبدى تفوقا تعليميا حد إشعال الحرائق؛ حد منافسة الأطفال اللعب بالطائرات الورقية التي تلتقط الصور؛ درجة أن بعض الديكة تمردت على مربيها وقتلته! حدث كل ذلك يا بني!
كأنّ «أمي» أعجبتها القصة المرعبة، كأنها مُلقنة سردها!
استفاقتْ القرية ذات فجر لم تؤذن فيه الديكة، وقد أصابها الخرس، وهي التي تؤذن عند رؤية الملائكة لتختفي الشياطين، ذلك الصباح لم تفتح الديكة مناقيرها؛كأنها لم ترَ الملائكة، وحضرتْ الشياطين؛ غطى الفيضان البلدة؛ وفي ساعات قليلة جرف المجالس والمكتبات وجوامع الحبوب، ثم بلعت الأرض ماءَها وأنهارها وجفّ كل شيء وحل الجدب؛ وأصيب النّاسُ بصدمة! و…
لم استوعب! وما علاقة هذا بوجيعة الرمل ولأُبتلي بمقدمة منقار لحم؟!
تستهجن «أمي»: )كيف تصدق هذا الهراء؟! قد يكون لهرمه ولإيمانه بسطوة اللعنات، والخوف منها علاقة باختلاق قصة «فقيس الرمل»، وأبدا لا تفسير لوحمة وجهك، مثل لا تفسير لهطول المطر بالجوار وحبسه هنا! ولا ما الذي أتى «بازهيرة» من «كانم»؟! ولا من علم الشيخ «داوود» الخوارق!.