)بين زمنين( كانت حياتها، زمنُ البداياتِ للبث الإذاعي، وفي سنواته الأولى، حيث كل شيء كان بسيطًا، ومتواضعًا، بدءًا من الأجهزة الإذاعية، والتقنية الفنية مرورًا بالبرامج المسجلة، والأشرطة الدوارة، وبين زمنٍ آخر ارتقى فيه كل شيء فلم تعد البرامج معلبةً في صناديق أشرطتها بل أضحتْ تبث مباشرة إلى النَّاسِ وعلى الهواء…
هكذا كانت الراحلة )العمَّة عويشه( طيّب اللهُ مرقدها …كنتُ أراها في ردهات الإذاعة فى أواسط الستينيات جيئة وذهابًا بين )استوديو التسجيل، وقسم التنسيق(؛ حيث العم الراحل )الصادق صويد، والراحل شعيب، وآخرون(. أقول هذا وأنا لم ابدأ العمل في الإذاعة بعد فقط كنتُ أقدم برنامجًا أسبوعيًا خلال ذلك الزمان، وأزور الاذاعة مرة واحدة فى الأسبوع .. وتشاء الظروفُ أن ألتحق بسلك الإذاعيين بعد ذلك لتصبح )الحاجة عويشه( زميلة تعتز بزملائها، فلم تكن هناك زميلات أخريات إلا ما كان فى الجهة الأخري من الإذاعة ببنغازى، فقد كان الفن والفنون والإذاعة مكانًا غير مناسب لعمل المرأة آنذاك، فكانت الفتاة التى تلتحق بهذا العمل تلاقي ما تلاقيه من مواقف يعرفها الكثيرون على المستويين الاجتماعي، و المجتمعي فى خضم كل هذا باشرتْ )الراحلة( مسيرتها بتقديم البرامج من خلال )ما يطلبه المستمعون، والأسرة والمجتمع( ..وربما برامج الأفراح، هذا بالإضافة إلى توليها فقرات الربط بين البرامج وقد كانت كالفراشة وهي تتحرك بين الزملاء تحييهذا وتستقبل ذاك، تسبقها تحيات الصباح، والدعوات الصالحه للجميع ، فهي كانت بمثابة الأخت والعمة لكل زملائها، من مثل السفاقسي، والمصراتي، والمطماطي وحواص، والتركي، والذين كنا نعتبرهم من الرواد الأوائل فى هذا المجال. ولعلنا نشير ونحن نتذكر كل هذا أن )المذيعة(، والفنانة فى ذلك الزمان وحتى الفنان غالبًا ما يتقمص )اسمًا آخر( مراعاة للظروف الاجتماعية السائده والتى اشرنا إليها آنفًا، ذلك أن النَّاس كانتْ تتصور الإذاعة وبرامجها عبارة عن )دربوكه ومرونه بتثليت القافة، وبندير وطار(، ولهذا فكل من يلج هذا المجال هو إما مغنٍ أو ضارب على الدف والطبل ولذلك عرفتُ الراحلة )عويشه( بـ«سعاد لامين»، ولهذا حكاية ذكرتها بحكم قرابتها من الشيخ لامين قنيوة «خالته» ، والذى استحسن هذا الاسم وبتزكية من الراحل كاظم نديم الذى بالتأكيد كان مبتهجًا ببدء دخول فتياتنا إلى دار الإذاعة الليبية والتى كان موقعها فى شارع الزاوية، والمنطقة المعروفة بـ«السمعة الحمراء». ومن هناك كانت البدايات للكثير من الزملاء والرواد الأوائل كما هو حال الراحلة وجميع الراحلين الذين كانوا السند والمرشد لزملائهم وزميلتهم كونها الوحيدة قبل أن تلتحق الأخريات بالركب واحدة بعد الأخرى على فترات متباعدة حيث انتقلت الإذاعة لشارع الشط فى مقرها المعروف الآن والذي اضحى يعج بالإذاعيين القدامى والجدد، العمل الاذاعي تطور أسلوبًا وتقنية وبالتالي فقد فتح مجال للابتكار والإبداع )لباقات من البرامج المنوعة( وفى غمرة كل هذا استمرت «الراحلة عويشه» بعد انقطاع فترة قصيرة غابت فيها عن الاذاعة والبرامج لظروف خاصه عادت وفى جعبتها أفكارًا لبرامج تتسم بالحداثة، قدمتها إلى المستمع والمستمعة فى بث فوري تتجاذب فيه مع المستمعات أمور البيت والطبخ والعادات والتقاليد الليبية والطرابلسيه، كل ذلك بلكنة طرابلسية، يعرفها ويدركها أهل المدينه وخصوصًا عندما تتناهى إلى أسماعهم عبر «الراديو» ..
هكذا كانت سعاد لامين «والعمة عويشه» الاذاعية التى مُلئِتْ شغفًا وحبًا لمجال الاذاعة وعالمها المتسع والفسيح، فكانت رحلتها «بين زمنين»، وفى كليهما لم تألوا جهدًا فى إبراز ما في جعبتها من أفكار تحولتْ إلى برامج متعدَّدة، أوصلتها فيما بعد لنشر ما تعلق بمجتمعها من عادات وتقاليد تمثلت فيما عرف بالمقولات المتداولة أهل طرابلس فى كتاب حمل عنوان )البوقالة( يتضمن الكثير من المعاني التى حملتها تلك المقولات فى لفظها ومعناها فكانت خلاصة الخلاصة لما يدور فى المجتمع الطرابلسي والليبي من حكم وعبارات وردتْ على لسان الاقدمين من الجدات والأمهات لتشكل نوعًا من الأمثال ….
وعندما نقول إنّ الزميلة الراحله قد عاشتْ بين زمنين فإنها فعلاً عايشتْ القديم، والجديد سواء على مستوى الإذاعة وبرامجها أم على مستوى المذيعين والمذيعات أو حتى على مستوى التقدم الإعلامي بصفة عامة أسلوبًا وطريقة وأداء. وبين هذا وذاك كان صوتها المميز ينطلق فى فضاءات البلد المترامية الأطراف، لتتبادل من خلاله مع المستمعات الحديث فى برامج الأسرة والتى كانت خط سيرها ورحلتها عبر اثير الاذاعة الليبيه وقبلها )دار الإذاعة( …
رحم الله زميلتنا «الخلوقة»، والمحبة والموجهة لزملائها وزميلاتها فقد كانت بمثابة الاخت التي تحنو على الجميع من الزملاء شبابا وشابات والكل يعتبرها المرجع فيما يتعلق بالمجتمع من عادات وتقاليد صحبة زميلات لها سواء فى الاذاعة او خارجها .
وما هذا إلا غيض من فيض فى كتاب رحلة كانت لها مع الإذاعة والإذاعيين والمستمعين، رحم الله الراحلة العزيزة والزميلة الخلوقة والاخت التي إن ذكرت فانما تذكر بخير، نسأل الله العلي القدير أن يغفر لها ويسكنها المقام الأعلى من الجنة ..
عزاؤنا لأسرتها وأهلها وأحبائها سواء في الإذاعة أو خارجها .. ولا حول ولا قوة الا بالله ..