ثقافة

محاكاة

سميرة البوزيدي

حين‭ ‬يشعر‭ ‬الناشئ‭ ‬من‭ ‬فتياننا‭ ‬برغبة‭ ‬في‭ ‬نظم‭ ‬الكلام‭ ‬موزونًا‭ ‬ومقفى،‭ ‬يبتدئ‭ ‬بمحاكاة‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الشعراء،‭ ‬فيقع‭ ‬فيما‭ ‬يسمى‭ ‬في‭ ‬الإصطلاح‭ ‬النقدي‭ ‬القديم‭ ‬بـ‭)‬الكذب‭ ‬الفني‭(‬،‭ ‬وهذا‭ ‬بلا‭ ‬شك‭ ‬أمر‭ ‬طبيعي‭ ‬ومفيد‭ ‬له‭.‬

وهو‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬ارتباطه‭ ‬بالنظم‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬يتوهم‭ ‬أنّ‭ ‬لديه‭ ‬عشيقة‭ ‬يحبها،‭ ‬وتحبه،‭ ‬فتكون‭ ‬باكورة‭ ‬نتاجه‭ ‬الشعري‭ ‬قصيدة‭ ‬في‭ ‬الغزل‭ ‬والحب‭ ‬،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يخضْ‭ ‬تجربة‭ ‬حب‭ ‬واحدة،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬اتجاه‭ ‬ديني‭ ‬فلا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أول‭ ‬شعره‭ ‬قصيدة‭ ‬في‭ ‬التصوف،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مدح‭ ‬النبي‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬ثم‭ ‬بعد‭ ‬القصيدة‭ ‬الأولى‭ ‬توسوس‭ ‬له‭ ‬نفسه‭ ‬أنه‭ ‬حكيم‭ ‬زمانه،‭ ‬فيتصنع‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬الحكمة،‭ ‬وضرب‭ ‬الأمثال‭ ‬،‭ ‬وهو‭ ‬ربما‭ ‬لمَّا‭ ‬يتجاوز‭ ‬العشرين‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬ثم‭ ‬يواصل‭ ‬النظم‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬من‭ ‬سبقوه،‭ ‬فينظم‭ ‬وهو‭ ‬الساكن‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬قصيدة‭ ‬يقف‭ ‬فيها‭ ‬باكيًا‭ ‬على‭ ‬أطلال‭ ‬ومضارب‭ ‬من‭ ‬رحلوا‮ ‬‭ ‬من‭ ‬الأحبة،‭ ‬وحين‭ ‬يجد‭ ‬التشجيع‭ ‬يبادر‭ ‬يمدح،‭ ‬أو‭ ‬هجو‭ ‬مَنْ‭ ‬يعرفه،‭ ‬أو‭ ‬مَنْ‭ ‬لا‭ ‬يعرفه‭ ‬إلا‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬السماع،‭ ‬أو‭ ‬القراءة‭.‬

إن‭ ‬تاريخ‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬قلدوا‮ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬ممارستهم‭ ‬للنظم‭ ‬مَنْ‭ ‬سبقوهم،‭ ‬ثم‭ ‬انفصلوا‭ ‬عنهم‭ ‬واستقلوا،‭ ‬لكن‭ ‬بعضهم‭ ‬ظل‭ ‬أسير‭ ‬التقليد‭ ‬واتباع‭ ‬المثال‭ ‬والأنموذج‭ ‬السابق،‭ ‬وأذكر‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشاعر‭ ‬محمود‭ ‬سامي‭ ‬البارودي‭ ‬المتوفَّىَ‭ ‬سنة‭ ‬1904م،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬وزير‭ ‬الحربية‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬وحارب‭ ‬الإنجليز‭ ‬بالبندقية،‭ ‬والمدفع،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬قصائده‭ ‬تقمص‭ ‬شخصية‭ ‬عنترة‭ ‬بن‭ ‬شداد،‭ ‬مفتخرًا‭ ‬بأنه‭ ‬هجم‭ ‬على‭ ‬أعدائه،‭ ‬ممتطيًا‭ ‬حصانًا‭ ‬قويًا،‭ ‬وصرع‭ ‬منهم‭ ‬المئات‭ ‬بالسيف‭ ‬والرمح‮ ‬‭ ‬والنشاب‭.‬

وبعض‭ ‬شعراء‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬من‭ ‬ساكني‭ ‬المدن‭ ‬يفتخرون‭ ‬في‭ ‬قصائدهم‭ ‬بالنجع‭ ‬والقبيلة‭ ‬وشيخها‭ ‬وبشجاعة‭ ‬فرسانها‭ ‬وبالإبل‭ ‬والخيام،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬مكونات‭ ‬بيئة‭ ‬مندثرة‭ ‬لم‭ ‬يعاصروها‭ ‬قَطُّ‭

د‭.‬عادل‭ ‬بشير‭ ‬الصاري‭ ‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى