محمد الرحومي يكتب.. اختلاس للذاكرة
ثمة فارق شاسع ومأهول بين أخلاقيات نيرة غادرتنا، وأخرى سوداوية أحكمتْ سيطرتها على حياتنا البائسة .. إلا أننا بكل تأكيد مرغمون على التعايش معها .. ولا أعلم لماذا كلما استيقظت ذاكرتي على مواقف غارت تفاصيلها في ردهات السنين والأيام أجد حاضري في مناظرة الخير والشر بعيدًا عن أي فيض للمشاعر..
وهذا سرد لما حدث معي ذات صيف لا تنقصة رعونة أشعة الشمس أجوبُ فيه بذاكرتي صحبة جسدي النشط الطريق الممتد من جامع بورقيبة مرورًا بشارع الرشيد قاصدًا شارع الجمهورية من خلال أزقة بو مشماشة التي احببتُ فيها فنون أبي الرائعة وحروفه المهيبة الأصيلة التي كان ينقشها على الرخام بطرقات هادئه تمامًا كمعزوفة تستهويني في صحوي وحتي منامي..ومنها احببتُ صنائعي الحرف .. ولِمَ لا.. فالعِرقُ دساس وأنا احببتُ عرقي الذي يربطني بقدوتي الدنيوية أبي حد الهوس ..لقد احببتُ هذا الشارع لأنه جزءٌ من تاريخ اروع نقاش علمني كيف اصافح اسطح الرخام بلين العباقرة وبأنامل المبدعين .. حيث جرت العادة عند خبراء الفراسة لدينا بأن لابد لأحد من أبناء الحرفيين والمبدعين أن يكون وريثًا شرعيًا للمهنة.. ولكم تمنيتُ أن اكون ذلك الوريث.. أما خطواتي الأولى فقد كانت من شارع الرشيد، وأنا اغادر ضجيج سيارات الأجرة المكتظة بجوار جامع بورقيبة .. وما هي إلا لحظات حتى لمحتْ عيناي ازدحامًا شديدًا في منتصف محال الشارع كان استغرابي محملًا بالدهشة، وبتساؤلات عن هذا الاكتظاظ الغريب خاصة وأنه قبل منتصف نهار يوم الجمعة..اسرعتُ بخطواتي كي اكون شاهد عيان يتملكه الفضول لمعرفة سر هذا الازدحام حتي وجدتُ نفسي في عمقه وبين أسراره التي لم اتوقع يومًا في حياتي أن اكون أسيرًا لها..فعلًا وجدتُ نفسي ضعيفًا مرتبكًا خائر القوى ألعن الفضول واصارع طريقًا آمنًا للخروج، من هذه الورطة..لقد وجدتُ نفسي بين اشرس الكلاب الباهظة الثمن.. ولو انها علمتْ باني دخيل غريب على أسواقها لكنتُ وجبة دسمة لها في سوقها الرائج..لا اعلم كيف تدحرجتُ وخرجتُ دونما أي نفس من بين أنيابها..التقطتُ أنفاسي وغادرتُ المكان مسرعًا في خطواتي حتى وطأتْ قدماي مبنى الصحافة ذاكرة التخزين كما احببتُ أن اصفها دائمًا ودون أن اشعر بطول المسافة.. وبيدي كومة من الكاكاوية التي كنتُ اشتهيها فقد كانت ليَّ الرفيق الذي اقضمه في رحلتي شبه اليومية هذه..
تلك كانت رحلة حاصرتني خلالها كلاب شرسة دون أن تؤذيني أما الآن فإنني على يقين بأنني لم اكن في ذلك اليوم محاصرًا بين أنياب شرسة وايقنتُ بأنني كنتُ أسير براءة غير البشر..
وإن الأسر الحقيقي هو عندما تكون أسير بني جلدتك .. حيث لا يمكنك الافلات منهم حتي وإن كنتَ بعيدًا عن فضولهم وخارج إطار نزواتهم وصراعاتهم ..
اليوم نحن اشرس مخلوقات الله لم نعد نحتاج لأي دليل.. فقد تجاوزنا المعقول واوغلنا في قسوة الخيال في حاضرنا..
فعلًا لقد تغيرتْ الحياة.. وأصبحنا اشرس مخلوقاتها ■