
في شهر رمضان كل شيء مميز، وبنكهة روحانية خاصة نفتقدها طوال العام، ولهذا الشهر الفضيل مكانة كبرى وقدسية في قلوب المسلمين، لا يشغلها سواه من شهور العام، ولم يمنعهم أي شيء من الحفاظ على عاداتهم وطقوسهم وتشبثهم بموروثهم الديني الذي ترسخ عبر الزمن.
كانت روائع هذه الروحانيات، استقبال الشهر الفضيل بكل شوق ومحبة، واجتماع الاسرة بقلوب تملؤها المحبة والتراحم، والتعاطف والالتزام الإنساني، وتعم مظاهر التكافل الاجتماعي بمساعدة غنيّنا لفقيرنا، لنستقي من روحانية رمضان المعاني الجليلة السامية، ونُجسّد كل ما جاء فيه من فضائل إلى واقعٍ ملموسٍ، ونُكرّس كل اهتماماتنا إلى ترابط وثيق يجمعنا، وننزع فتيل المُماحكات التي فرّقتنا، وقدّمت نتاج خلافاتها العبثية، لا لشيء سوى لأطماع دنيوية.
ويعد مدفع الافطار تقليد من التقاليد الرمضانية الراسخة في العديد من المدن الاسلامية، كان المدفع ينطلق مع آذان صلاة المغرب وقبل اذان صلاة الفجر في دقة متناهية، كان ينتظره الجميع، يبهج الصغار والكبار أينما دوى، فهو المدفع الوحيد الذي يفرح الناس لسماع دويه، فمع أذان المغرب تطرب لصوته آذان الصائمين، لأنه الإشارة الحاسمة إلى إعلان موعد فك الصيام، ويرقص له الأطفال لأنه موعد أكل أشهى الأطباق، ويعتبر من أهم العادات الرمضانية في مجتمعاتنا، وله قيمة تاريخية منذ قرون عديدة، وقد شغل مكانة هامة على مر التاريخ في مختلف الحضارات حتى أصبح أثرا تاريخيا تراثيا، لكنه اصبح في السنوات الأخيرة يجاهد من أجل البقاء، بعد أن بدأت بعض الدول والمدن تتخلى عنه لأسباب مختلفة.
ولا يزال الصائمون يرحبون بصوت طلقة المدفع كل غروب لأنها هي التي تؤذن بانتهاء يوم من أيام الصوم، ما جعل من مدفع رمضان السلاح الوحيد الذي يشتاق الناس لسماع صوته. فعندما يصيح المدفعجي: (مدفع الإفطار .. اضرب) يبدأ الناس في كل مكان في الالتفاف حول موائد الإفطار، وقد ارتبط ذلك في الذاكرة بالدفء الأسري، والحنين دوماً إلى رمضان ولياليه مع الأهل والأصدقاء، تسميات وصور مختلفة تشع ببهاء الماضي وألقه، وعبق القِدم الذي يحكي للأجيال تاريخاً طويلاً ما غادر ذاكرة سكان مجتمعاتنا، وبإصرار يحاولون الحفاظ عليه تعظيماً لتاريخ مشرف، كان أساساً لبزوغ فجر جديد، عَبّدَ الطريق وصولاً إلى حاضر مزدهر.
وصل العرف باعتماد المدفع معلِناً وقت الإفطار إلى مجتمعاتنا المغاربية، بعد اعتماده لأول مرة في القاهرة، حيث كانت القاهرة أول مدينة ينطلق فيها مدفع رمضان، فعند غروب أول يوم من رمضان عام 865 هـ أراد السلطان المملوكي (خو شقدم) والي مصر في العصر الإخشيدي، أن يجرب مدفعًا جديدًا وصل إليه، وكان مجموعة من الجند يقفون على المدفع على سبيل اختباره لكونه مدفعاً جديداً، وصادف إطلاق المدفع وقت المغرب بالضبط عن طريق الصدفة، فظن الناس أن السلطان تعمد إطلاق المدفع لتنبيه الصائمين إلى أن موعد الإفطار قد حان، فخرجت جموع من الأهالي والعلماء والأعيان لمقابلة السلطان في مقر الحكم لتشكره على هذه البدعة الحسنة التي استحدثها، ولطلب استمرار عمل المدفع، لكنهم لم يجدوه والتقوا زوجة السلطان التي كانت تدعى الحاجة فاطمة ونقلت طلبهم للسلطان، وعندما رأى السلطان سرورهم أعجبته الفكرة وقرر المضي في إطلاق المدفع كل يوم إيذاناً بالإفطار، وأصدر فرمانًا يفيد باستخدام هذا المدفع عند الإفطار ثم أضاف بعد ذلك مدفعي السحور والإمساك، وكذلك فى الأعياد الرسمية.
ويشير التاريخ إلى أن المسلمين في شهر رمضان كانوا أيام الرسول عليه الصلاة والسلام، يأكلون ويشربون من الغروب حتى وقت النوم، وعندما بدأ استخدام الأذان اشتهر بلال وابن أم مكتوم بأدائه، احد لتنبيه، والأخر لموعد الصلاة.
وقد حاول المسلمون على مدى التاريخ، ومع زيادة الرقعة المكانية وانتشار الإسلام، أن يبتكروا الوسائل المختلفة إلى جانب الآذان للإشارة إلى موعد الإفطار، إلى أن ظهر مدفع الإفطار إلى الوجود.
وقصة استخدام هذا المدفع في ليبيا، هناك العديد من القصص التي تُروى حول موعد بداية هذه العادة الرمضانية التي أحبها المصريون وارتبطوا بها، ونقلوها لعدة دول عربية أخرى قديما ليتربع بذلك المدفع فوق قلعة سرايا ليبيا الحمراء قبالة البحر، نعم الكثير منهم لم يسمعوا بمدفع رمضان الذي كان منتصبا في أحد أقواس قلعة السرايا الحمراء، ولم يعد إلا صوته في الإذاعة المسموعة الذي نسمعه في أيام رمضان والذي يبدو أنه تسجيل قديم يوم كانت اطلاقة مدفع رمضان تنقل مباشرة من عين المكان، وما زال في كل لحظة يتردد على مسمعي صوت المذيع يقول بصوت هادئ انطلق مدفع الإفطار، ليعلن نهاية يوم من أيام الشهر، وعلى الأخوة القاطنين خارج المدينة مراعاة الفارق في التوقيت. كان صوت طلقات المدفع تقليدا رائعا وجميلا في كل ارجاء مدينة طرابلس، عندما كانت المسافة بين طرابلس وما يحيط بها تلونها المزارع والسواني فقط، وليست الخرسانة الإسمنتية والعمارات العالية، فكانت موجات صوت المدفع تتدافع إلى أن تصل حتى تاجوراء دون أن يقف في طريقها أي عارض، لتعلن للصائمين عن نهاية يوم من أيام شهر رمضان المبارك.
كانت ذخيرة المدفع صوتية تزمجر بصوت ينبه الغافلين بأوقات الصلاة أو الإفطار أو السحور سعيا لجعل النفوس تسعى الى الله، ذكرا وإيمانا في خشوع وتضرع، وكان هذا التقليد يبدأ مع بداية الشهر بإطلاق عدد من الطلقات إعلانا لبدء شهر رمضان، شهر الخير والاحسان، لتكون بعدها طلقة واحدة كل صلاة، ومنها بطبيعة الحال طلقة الإفطار (آذان صلاة المغرب) ثم أخيرا طلقة الإمساك التي تنبه الصائمين إلى ضرورة الإمساك.
كان الراحل الحاج الصادق زقلام هو أخر من تولى الاشراف على إطلاق المدفع في مدينة طرابلس، كان رحمه الله حريصاً ودقيقا جدا في مواعيده، وكان طيلة ايام شهر رمضان يتناول إفطاره البسيط بجانب المدفع بعد أن يعلم الناس بموعد الافطار، صوت مدفع الافطار كان يعني الكثير لسكان مدينة طرابلس ولا زالت ذكراه عالقة في ذاكرتهم لا تستطيع مشاغل الحياة محوها.
اليوم، وبفعل التطور الهائل في الصناعات والتقنية، ما عاد مدفع الإفطار يعتمد مؤقتاً ومنبهاً للصائمين، وبدأ التخلي عنه منذ بداية القرن الماضي، مع انتشار الجوامع التي تطلق أذانها من خلال مكبرات الصوت، وباعتماد الساعات المنبهة، ومنبهات الهواتف النقالة، بالإضافة إلى المحطات التلفزيونية التي تبث الأذان بجميع أوقاته. ومع هذا لا يزال مدفع رمضان عالقا في أذهان المسلمين وبقي موروثا اجتماعيا يحلو به الشهر الكريم . لكن هناك من جعل المدفع نذير حرب لا موروثا تراثيا جميلا يعيد للناس ذكريات رمضان.
انتهى العمل بهذا التقليد الرمضاني الجميل في اواخر سبعينات القرن الماضي ولم يبقى سوى صوته في تسجيلات الإذاعة المسموعة ينطلق عبر الاثير نهاية كل يوم رمضاني قبل اذان المغرب مذكراً الناس بزمن مضى ويعلمهم بموعد الافطار والسحور.
رحم الله الحاج الصادق زقلام واسكنه فسيح الجنان، ورحم الله تلك الايام الجميلة.
مدفع رمضان السلاح الوحيد
الذي يشتاق الناس لسماعه
كان الحاج زقلام يتناول إفطاره البسيط بجانب المدفع