
الجميلةُ «سوسة» مدينة أثرية ليبية متعدَّدة الحضارات، غنية بآثارها الجميلة، وتعد متحف آثار.
عرفتْ تاريخيًا باسم )أبولونيا(، وتعني «رب الموسيقى، والسماء».
تأسستْ عام 631 ق.م، وأطلقوا عليها اسم «أبولونيا» نسبة إلى «أبوللو» إله الجمال والموسيقى، تتمتع المدينة بمناخ رائع وطبيعة ساحرة، وتطل على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وتقع شمال شرق مدينة قوريني بحوالي 20كم، وتبعد عن مدينة دارنس «درنة» حوالي 88كم، وعن هيوسبريدس «بنغازي» مسافة 220 كم.
تعد من أجمل المدن الليبية على الإطلاق، وذكرها الرحالة، والشعراء والكُتَّاب في مؤلفاتهم، ولم يستحمل الشاعر المصري علي محمد أحمد سحر جمالها فقال فيها قصيدة «من وحي سوسة» هي الأشهر، تضم ما يقارب الخمسين بيتاً، نظمها بعد عودته من رحلة قام بها الطلاب والمدرسون في مدرسة بنغـازي الثانوية إلى مدينة سوسة الليبية، وقد نشرها في صحيفة «البشائر» الليبية في عددها الصادر يوم27 يوليو 1953م، وأهداها إلى شاعر الوطن «أحمد رفيق المهدوي». ولد الشاعر علي محمد في إحدى قري طنطا بمصر عام 1918م وتخرج في «دار العلوم» بالقاهرة عام 1946م، ودرَّس اللغة العربية في مدرسة بنغازي الثانوية، ثم انتقل إلى مدرسة مفتاح الماجري الثانوية بمدينة سوسة الجميلة، ولم يغادر مصر إلا عندما حصل على عقد عمل كمدرس في ليبيا، وهي الدولة الوحيدة التي ذهب إليها، ولم يزر تونس إطلاقًا، بل لم يخرج من مصر إلا لليبيا فقط، حتى وفاته رحمه الله.
«سوسة» التونسية مطلة على البحر بساحل جميل، ولا يوجد بها جبل، وسوسة الليبية مطلة على البحر، وتقع بين البحر، والجبل الأخضر الأشمُّ.
الشاعر المصري الأستاذ علي محمد في وصفه لقصيدة «من وحي سوسة» عندما وقف على شط البحر كان الجبل من ورائه، وكان يقصد الجبل الأخضر الأشمُّ، حيث قال:
)لما وقفتُ هناك ذات مساء، البحرُ يبدو من أمامي موغلاً في الأفق، والجبل الأشمُّ ورائي(.
هذه أبياتُ قصيدة )من وحي سوسة(:
أرأيتَ سوسةَ والأصيـل يلفّها
في حلّةنُسجت من الأضواءِ؟!
أمّا أنا فلقد أُخذتُ بسحرهــا
لمّا وقفتُ هناك ذات مسـاءِ!
حدقتُ في أرجائها من شرفتي
فعشقتُ منظر هذه الأرجاء
البحرُ يبدو من أمامـي موغـلاً
في الأفق، والجبل الأشمُّ ورائي
والشمسُ تسكب في الغروب
أشعةً حمراء فـوق اللجةِ الزرقـاء
هبطتْ إلى سطح المحيط فنصفهـا
يبدو عليه، ونصفها في المـاء
عزمتْ عن الكون الرحيلَ فخضبت
آفاقه بدموعها الحمراء
وهنا على شطان سوسه يا لها
من جنة سحرية الإغراء
نامت على البحر الجميل كظبيةٍ
مذعورة هربت من الصحراء
عذراء في يوم الزفاف تهيأتْ
للعرس وانتظرتْ على استحياء
يسرى نسيمُ الليل طلقًا ناعمًا
ينساب بين رياضها الفناء
وعلى التلال أشعة وردية
سالت كأقداح من الصهباء
وعلى النخيل من الأصيل غلالة
فتانة الأصباغ ذات بهاءِ
تبدو الطبيعة فيه أجملما ترى
في سائر الأرجاء والأنحاء
* اسم سوسة تاريخياً
تغير اسم سوسة تاريخياً عدّة مراتٍ بتغير الحقب الزمنية.
أثناء ظهور المسيحية كان اسمها «سوزوسا»، نسبة إلى أحد ألقاب السيدة مريم العذراء عليها السلام ويعني المنقذة، استمر الاسم حتّى الفتح الإسلامي، وتمّ تغييره إلى سوسة المحروسة.
أثناء الاحتلال الايطالي لليبيا أعاد الايطاليون اسم «أبولونيا» من جديد حتى قامت الدولة الليبية.
أطلق اسم سوسة على الكثير من المناطق في الدول المغاربية منها )ليبيا، وتونس(، وغيرهما.
ولد فيها الفلكي، وعالم الرياضيات «إراثوسثينيس» 276 – 194 ق.م، الذي كان أميناً لمكتبة الإسكندرية، واستطاع قياس محيط الأرض، كما يوجد إلى الشرق منها بحوالي 15كم كهف هوى افطيح، ومنها كان يصدر نبات السلفيوم المهم آنذاك.
ومن آثار المدينة التي تعبر عن تاريخها العريق:
الأسوار المحيطة بها التي تم بناؤها في العصر الهليني، ومنها الجزء الحصين الذي يعرف بالأكروبوليس.
الأبراج متعددة الأشكال.
الكنائس الشرقية والوسطى والغربية، وكنيسةٌ أخرى ذات حنيةٍ ثلاثية التصميم تقع خارج أسوار المدينة.
المقابر، والحمامات الباقية من العصرين البيزنطي والروماني، وحوض الملكة «كليوباترا» التي كانت تستمتع به عند زيارتها للمدينة.
قصر الدوق البيزنطي الذي كان مقراً للحكم في القرن السادس الميلادي. المسرح الإغريقي الروماني.
متحفٍ سوسة وهو متحفٍ خاصٍ بالمدينة، إنشاء بعد أن تمت في المدينة الكثير من أعمال التنقيب والحفريات والبحث عن الآثار، ويضمّ المتحفٍ العديد من الآثار التي تمّ العثور عليها، ومن هذه الآثار بعض المنقوشات ولوحات الفسيفساء، وفيه أيضاً قاعدةً لتمثالٍ يعود تاريخه إلى القرن الثالث قبل الميلاد وقد كتبت على هذا التمثال قصيدةٌ شعريةٌ كتبها الشاعر «كاليماخوس» في الفترة حوالي 305-204 قبل الميلاد لتبجيل ملك قورينائية «ماجاس».
يحتوي المتحف أيضاً على نقشٍ جنائزيٍ يعود للعصر الروماني، وأيضاً فيه جزءٌ من غطاء قبرٍ إغريقي عليه رموز إغريقية، وتمثالٌ لآلهة الحكمة «أثينا»، وتمثالين لاثنتين من نساء سوسة قامتا بأعمالٍ جليلةٍ للمدينة، ومن بين التماثيل المعروضة في هذا المتحف تمثال نحت لسيدة قد همّت بفتح صندوق ملابسها يعود تاريخه إلى نهاية القرن الخامس ق.م، وقبرٌ صغيرٌ كانت توضع فيه عظام الموتى بعد حرقها، وبعض تيجان الأعمدة التي استعملت في بناء المدينة.
كما يحتوي المتحف على بعض اللوحات الفسيفسائية، وعلى الكثير من القطع الأثرية مثل بعض التماثيل والنقوش الكتابية واللوحات الفسيفسائية التي عُثر عليها في عدة مواقع من المدينة، من بينها لوحة فسيفسائية وجدت بأرضية الكنيسة الشرقية بالمدينة تعود إلى القرن الخامس أو السادس ميلادي، ونصب تحديد أرض عليه كتابة منقوشة باللغة الإغريقية يعود إلى القرن الميلاد الأول.
كذلك توجد في سوسة بعض الآثار الموجودة تحت البحر، والسبب في ذلك حسب تحليل العالم الاركيولوجي الليبي دكتور فضل القوريني رحمه الله، هو الهبوط المستمر للطبقات الأرضية في المدينة عن مستوى سطح البحر ممّا أدى إلى غمر الآثار كلياً بالمياه.
هذه المدينة الجميلة معظم سكانها كريتلية، أحد مكونات المجتمع الليبي، الذين وفدوا إليها من جزيرة كريت اليونانية، الذين قدموا الكثير عبر تاريخهم المشرف ولم يبخلوا على ليبيا بشيء.