ثقافة

نقد : فضاء العماري .. أُحجية الاغتراب

* عبدالسلام الفقهي

جمعتني‭ ‬الصدفةُ‭ ‬ذات‭ ‬صباح‭ ‬في‭ ‬مقهى‭ ‬مستشفى‭ ‬طرابلس‭ ‬الطبي‭ ‬بالشاعر‭ ‬مفتاح‭ ‬العماري،‭ ‬وكنتُ‭ ‬آنذاك‭ ‬مشغولًا‭ ‬بالبحث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬صبغة‮»‬‭ ‬التصوير‭ ‬الطبي،‭ ‬وبدوره‭ ‬كان‭ ‬العماري‭ ‬يشاركني‭ ‬المعضلة‭ ‬ذاتها،‭ ‬ما‭ ‬جرنا‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬الوضع‭ ‬المزري‭ ‬للمستشفيات،‭ ‬والنجوم‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬أقرب‭ ‬إلينا‭ ‬من‭ ‬حبة‭ ‬‮«‬الأسبرين‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬للحوار‭ ‬مع‭ ‬العماري‭ ‬أن‭ ‬يتجه‭ ‬صوب‭ ‬مفازة‭ ‬الأبدي‭ ‬الشعر،‭ ‬وبدت‭ ‬النقلة‭ ‬فلكية‭ ‬من‭ ‬الصبغة‭ ‬إلى‭ ‬المتنبي‭ ‬والشنفري،‭ ‬ورامبو‭ ‬وبودلير،‭ ‬عبر‭ ‬وثبة‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬أحمله‭ ‬معي‭ ‬لـ‮«‬تودوروف‮»‬‭ ‬عن‭ ‬الأدب،‭ ‬برع‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬استخدامه‭ ‬منصة‭ ‬لحديثه،‭ ‬وتصفحه‭ ‬مبتسمًا‭ ‬ومستمتعًا‭ ‬بشرب‭ ‬‮«‬الكابتشينو‮»‬‭ ‬وكأنما‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬يستلذ‭ ‬ويتقوى‭ ‬بتجاهله‭ ‬الساخر‭ ‬لآلامه،‭ ‬حتى‭ ‬لتبدو‭ ‬هامشية‭ ‬أمام‭ ‬فضائه‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬تتحوَّل‭ ‬فيها‭ ‬فاتورة‭ ‬الوجع‭ ‬إلى‭ ‬لذة‭ ‬حد‭ ‬الجنون‭. ‬

قال‭ ‬ليَّ‭ ‬العماري‭ ‬في‭ ‬النهاية‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬أحبُ‭ ‬القراءة‭ ‬لتودوروف‭ ‬والشكلانيين‭ ‬الروس‮»‬،‭ ‬غادرتُ‭ ‬المكان‭ ‬وظلّتْ‭ ‬هذه‭ ‬اللحظات‭ ‬معلقة‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي‭ ‬عن‭ ‬شاعر‭ ‬لا‭ ‬تبدو‭ ‬طبيعة‭ ‬تكوينه‭ ‬الأدبي‭ ‬منتمية‭ ‬لاتجاه‭ ‬يساري،‭ ‬أوغيره‭ ‬برغم‭ ‬اشاراته‭ ‬المذكورة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تترجمه‭ ‬نصوصه‭ ‬ومقالاته‭ ‬وتجربته‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬بشكل‭ ‬عام‮ ‬‭ .‬

المخيلة‭ ‬الشعرية‭ ‬لدى‭ ‬العماري‭ ‬اتجهت‭ ‬إلى‭ ‬اقتفاء‭ ‬أثر‭ ‬الوجع‭ ‬الداخلي‭ ‬ليتحوَّل‭ ‬في‭ ‬عصارته‭ ‬النهائية‭ ‬إلى‭ ‬اغتراب‭ ‬آسر،‭ ‬وذاك‭ ‬طابع‭ ‬في‭ ‬جل‭ ‬دواوينه‭ ‬الشعرية‭ ‬والنثرية،‭ ‬فقد‭ ‬بنى‭ ‬النص‭ ‬على‭ ‬إيقاع‭ ‬اغترابي‭ ‬اعتزالي‭ ‬حزين‭ ‬تتصدره‭ ‬استعارة‭ ‬تراثية‭ ‬لها‭ ‬دلالتها‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬الشعرية‭ ‬العربية،‭ ‬كالشنفري‭ ‬وحنظلة‭ ‬والهمذاني‭. ‬

نسخة‭ ‬معدلة‭ ‬

يبقى‭ ‬هذا‭ ‬التصدير‭ ‬له‭ ‬ارتباطٌ‭ ‬بالإيقاع‭ ‬العام‭ ‬للحالة‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬وزمان‭ ‬ما،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬الاستعانة‭ ‬بالقصص‭ ‬والأمثلة‭ ‬والحالات‭ ‬الخاصة‭ ‬يولد‭ ‬قدرتنا‭ ‬على‭ ‬التواصل،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬يتوقف‭ ‬على‭ ‬أسلوب‭ ‬ونوع‭ ‬المحاكاة‭ ‬التي‭ ‬يبقى‭ ‬العماري‭ ‬في‭ ‬صراع‭ ‬معها‭ ‬بغية‭ ‬جرها‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬أجواء‭ ‬الانكسار‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭ ‬وسط‭ ‬بين‭ ‬المضحك‭ ‬والمبكي‭ ‬في‭ ‬موازاة‭ ‬شغف‭ ‬‮«‬بودلير‮»‬‭ ‬بالجمع‭ ‬بين‭ ‬المخيف‭ ‬والمضحك،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬نسخة‭ ‬معدلة‭ ‬تتبنى‭ ‬المزج‭ ‬بدل‭ ‬التقابل،‭ ‬أو‭ ‬التضاد،‭ ‬وهي‭ ‬تروم‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬نداءات‭ ‬خفية‭ ‬لها‭ ‬وقع‭ ‬صوفي‭ ‬شفيف‭ ‬يجنح‭ ‬إليها‭ ‬كاستراحة‭ ‬محارب،‭ ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬تلبث‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬شجونها‭ ‬ومتكئها‭ ‬الأول‭. ‬

في‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬المقامات‮»‬‭ ‬يرتسم‭ ‬السؤال‭ ‬حول‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬هروبًا‭ ‬إلى‭ ‬الماضي‭ ‬باستذكار‭ ‬واستحضار‭ ‬دلالات‭ ‬النص‭ ‬التراثي‭ ‬أم‭ ‬هو‭ ‬مَخرَج‭ ‬رمزي‭ ‬لعنفوان،‭ ‬وعفوية‭ ‬الحالة‭ ‬اللحظية‭ ‬للذات‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الضرورة‭ ‬الفنية،‭ ‬ففي‭ ‬مفتتحه‭ ‬الأول‭ ‬للديوان‭ ‬يقذف‭ ‬بسؤاله‭ ‬المقلق‭ ‬متشبعًا‭ ‬بغواية‭ ‬الترحال‭ ‬لدى‭ ‬الشنفري‭ ‬‮«‬كيف‭ ‬أقولني‭/ ‬والكلام‭ ‬وقف‭ ‬على‭ ‬العارفين‭ ‬بأسراره‭.. ‬دليني‭ ‬أيتها‭ ‬السماء‭/ ‬كيف‭ ‬أشعل‭ ‬الحجر‭ ‬الذي‭ ‬خربته‭ ‬العواصف‭/ ‬تذأبن‭ ‬يا‭ ‬شنفري‭ ‬وأطلق‭ ‬عوائك‭ ‬في‭ ‬المدى‮»‬،‭ ‬ولأن‭ ‬الإجابة‭ ‬تطلبت‭ ‬المضي‭ ‬بعيدًا‭ ‬لاستجلابها‭ ‬بشرط‭ ‬قاسٍ،‭ ‬وهو‭ ‬تقمص‭ ‬الحالة‭ ‬الذئبية‭ ‬المرادفة‭ ‬للعزلة‭ ‬العاكسة‭ ‬لتشظي‭ ‬داخلي‭ ‬عميق‭ ‬يناشد‭ ‬صدى‭ ‬ينقذه‭.‬

 من‭ ‬دوامة‭ ‬الأسئلة

كان‭ ‬السؤال‭ ‬ولازال‭ ‬القوة‭ ‬الدافعة‭ ‬للاغتراب‭ ‬ويستمر‭ ‬مرحلاً‭ ‬في‭ ‬سبعة‭ ‬مقامات‭ ‬تباع،‭ ‬بدءًا‭ ‬بـ«حنظلة‮»‬‭ ‬وانتهاءً‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬اللهب‮»‬،‭ ‬ولكنه‭ ‬لا‭ ‬يعلن‭ ‬نهايتها‭ ‬مطلقًا‭ ‬حتى‭ ‬كأن‭ ‬البحثَ‭ ‬عن‭ ‬إجابة‭ ‬يصبح‭ ‬مقصدًا‭ ‬شبيهًا‭ ‬بالأحجية‭ ‬المعلقة‭ ‬في‭ ‬الفراغ‭ ‬يستلزم‭ ‬بقاؤها‭ ‬صيدًا‭ ‬وافرًا‭ ‬من‭ ‬الحكايا‭ ‬المرمزة،‭ ‬ويصبح‭ ‬الاغتراب‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاته‭ ‬اللذة‭ ‬المنشودة،‭ ‬وذلك‭ ‬يشبه‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬يحلم‭ ‬الشاعر‭ ‬بكتابتها‭ ‬ويكتب‭ ‬طلبًا‭ ‬لها‭ ‬ألف‭ ‬قصيدة‭ ‬ولن‭ ‬يكتبها‭ ‬فهي‭ ‬‮«‬القصيدة‭ ‬الحلم‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬النص‭ ‬الأحجية‮»‬،‭ ‬هذه‭ ‬المتوالية‭ ‬أضحت‭ ‬آسرة‭ ‬وجاذبة‭ ‬ومربكة‭ ‬في‭ ‬طبيعتها،‭ ‬يتسرب‭ ‬منها‭ ‬جدل‭ ‬الأمنيات،‭ ‬ومفازة‭ ‬طلب‭ ‬عصي‭ ‬المنال‭ . ‬

الأنثى‭ ‬الرفيق‮ ‬‭ ‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬سفر‭ ‬سالف‭ ‬لم‭ ‬يسعفه‭ ‬على‭ ‬رصد‭ ‬ملامح‭ ‬الأفق،‭ ‬فإنه‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬مشية‭ ‬الآسر‮»‬،‭ ‬يفصح‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬الملاذ‭ ‬الرؤوم‭ ‬وهو‭ ‬شيفرة‭ ‬الولوج‭ ‬إلى‭ ‬السر‭ ‬المقدس‭ ‬‮«‬المعنى‮»‬‭ ‬وموصله‭ ‬إلى‭ ‬شقيق‭ ‬الروح‭ ‬‮«‬الأنثى‮»‬‭ ‬توأم‭ ‬القصيدة،‭ ‬التي‭ ‬ستكون‭ ‬حاضرة‭ ‬فيه‭ ‬بقوة‭: ‬‮«‬هنا‭ ‬علمني‭ ‬الشعر‭/ ‬السفر‭ ‬داخل‭ ‬الغرفة‭/ ‬فصار‭ ‬وطني‭ ‬في‭ ‬لغتي‭/ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬أربت‭ ‬خياله‭ ‬وأعالج‭ ‬مساميره‭ ‬الصدئة‮»‬‭. ‬

ولأن‭ ‬الغربة‭ ‬قاسية‭ ‬بلا‭ ‬رفيق،‭ ‬جاءت‭ ‬الانثى‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬معادلة‭ ‬التوازن،‭ ‬باعتبار‭ ‬القصيدة‭ ‬انثى‭ ‬تكونت‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬الكلمة،‭ ‬والانثى‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬شغوفة‭ ‬بالقلق‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تبغي‭ ‬مقابلًا‭ ‬فيزيائيًّا‭ ‬بعدما‭ ‬غادرته‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬لاجئة‭ ‬ومستجيرة‭ ‬بالعشق‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعترف‭ ‬إلا‭ ‬بناموسه‭ ‬فقط،‭ ‬ولذلك‭ ‬تتوج‭ ‬الاغتراب‭ ‬بثلاث‭ ‬تيمات‭ )‬القصيدة،‭ ‬الانثى،‭ ‬والذات‭ ‬الشاعرة‭(‬،‭ ‬ولكن‭ ‬الانثى‭ ‬أيضًا‭ ‬لا‭ ‬تأتي‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬إلا‭ ‬لتمارس‭ ‬أُحجية‭ ‬الحضور،‭ ‬والغياب‭ ‬وتجسدها‭ ‬كائنًا‭ ‬في‭ ‬اقتراب‭ ‬يهب‭ ‬الطمأنينة،‭ ‬وغياب‭ ‬يتحالف‭ ‬ضمنيًا‭ ‬مع‭ ‬القصيدة،‭ ‬ولا‭ ‬تجد‭ ‬الذات‭ ‬الشاعرة‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬استرضائها‭ ‬في‭ ‬نص‭ ‬الغائبة‭ )‬أنتِ‭ ‬يا‭ ‬مسقط‭ ‬الحلم‭(. ‬

البطل‭ ‬الغائب‭ ‬

البحثُ‭ ‬عن‭ ‬البطل‭ ‬الغائب،‭ ‬الذي‭ ‬ستأتي‭ ‬به‭ ‬معجزةٌ‭ ‬ما،‭ ‬هو‭ ‬سر‭ ‬الأسئلة‭ ‬المتوشحة‭ ‬بالانكسار،‭ ‬لقد‭ ‬اجتاحتْ‭ ‬عواصف‭ ‬الخيبة‭ ‬خيال‭ ‬الذات‭ ‬العربية‭ ‬بعد‭ ‬نكسة‭ ‬‮«‬67‮»‬،‭ ‬فسكنت‭ ‬إلى‭ ‬تصوراتها‭ ‬الخاصة‭ ‬ومضت‭ ‬تحاول‭ ‬تخفيف‭ ‬وطأة‭ ‬الصدمة‭ ‬بأمنيات‭ ‬مبطنة‭ ‬بالاستعارات،‭ ‬حيث‭ ‬غاص‭ ‬وجهها‭ ‬الحقيقي‭ ‬بعيدًا‭ ‬في‭ ‬الأعماق‭ ‬وارتفعت‭ ‬للأعلى‭ ‬مجازاتها‭ ‬الخجولة،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬تظهر‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر‭ ‬فقاعات‭ ‬تمرد‭ ‬كبروفة‭ ‬إعلان‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬خطابها‭ ‬المهزوم‭ ‬‮«‬بعد‭ ‬الحرب‭: ‬قال‭ ‬الجندي‭ ‬الكهل‭ ‬الذي‭ ‬نسميه‭ ‬مجازًا‭ ‬ذئب‭ ‬التذكر‭ ‬‭: ‬الحرب‭ ‬الشابة‭ ‬التي‭ ‬هبت‭ ‬قبل‭ ‬قليل‭ ‬بمحاذاة‭ ‬القرن‭ ‬الواحد‭ ‬والعشرين‭ ‬كانت‭ ‬بعض‭ ‬أسبابي،‭ ‬أنا‭ ‬الكسيح‭ ‬الفصيح‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يسمع،‭ ‬أو‭ ‬يرى،‭ ‬فمَنْ‭ ‬استمرأ‭ ‬الوقفَ‭ ‬على‭ ‬حواف‭ ‬الهلاك‭ ‬ليقرأ‭ ‬أسئلة‭ ‬ضائعة‭ ‬لرجل‭ ‬ضائع‮»‬،‭ ‬والأسئلة‭ ‬الضائعة‭ ‬تكمن‭ ‬عقدتها‭ ‬في‭ ‬إجاباتها‭ ‬المكبلة‭ ‬بأسوار‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬آنذاك،‭ ‬وسترتد‭ ‬مجددًا‭ ‬لتمارس‭ ‬طقوس‭ ‬الاختباء‭ ‬خلف‭ ‬الأقنعة،‭ ‬وهو‭ ‬صراع‭ ‬مرير‭ ‬من‭ ‬الاحتيال‭ ‬الاضطراري‭ ‬لإعادة‭ ‬ترتيب‭ ‬القصيدة‭ ‬المتشظية‭ ‬بفعل‭ ‬الهروب،‭ ‬الذي‭ ‬أوجد‭ ‬بالضرورة‭ ‬إفرازات‭ ‬بديلة‭ ‬من‭ ‬المعالجات‭ ‬وأجواء‭ ‬مغايرة‭ ‬تتجه‭ ‬لتهشيم‭ ‬المعتاد‭ ‬وإزاحة‭ ‬الصورة‭ ‬النمطية‭ ‬للبطل،‭ ‬الذي‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬وجد‭ ‬فسيوضع‭ ‬حتمًا‭ ‬في‭ ‬متاحف‭ ‬الشمع‭ ‬بحكم‭ ‬واقع‭ ‬الثورة‭ ‬الهائلة‭ ‬في‭ ‬خيارات‭ ‬الممكن،‭ ‬أو‭ ‬المتاح‭. ‬

وبمقدار‭ ‬السماح‭ ‬للغموض‭ ‬بالتمدد‭ ‬يتقدم‭ ‬الوضوح‭ ‬خطوة‭ ‬للأمام‭ ‬في‭ ‬تناوب‭ ‬انطبعت‭ ‬به‭ ‬معظم‭ ‬نصوص‭ ‬العماري،‭ ‬والنص‭ ‬العربي‭ ‬الحداثي‭ ‬عمومًا،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬اعتقادي‭ ‬غير‭ ‬خاضع‭ ‬لوجهة‭ ‬نظر‭ ‬محدَّدة،‭ ‬وإنما‭ ‬لعفوية‭ ‬دفق‭ ‬النص‭ ‬ذاته‭ ‬العاكس‭ ‬لرؤى‭ ‬متضاربة‭ ‬

الاتجاهات‭ ‬تتنازع‭ ‬فرض‭ ‬وجودها‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬عبر‭ ‬جر‭ ‬اللغة‭ ‬إلى‭ ‬مربع‭ ‬الطاعة‭ ‬العمياء،‭ ‬والنتيجة‭ ‬‮«‬تداعيات‭ ‬سريالية‭ ‬غير‭ ‬منتظمة‭ ‬السياق‮»‬‭ ‬يطمح‭ ‬الشاعر‭ ‬إلى‭ ‬التجسير‭ ‬بينها‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬تجانسها‭ ‬‮«‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬واقع‭ ‬يحس‭ ‬الشاعر‭ ‬بعدم‭ ‬تلاحمه‭ ‬وترابطه‮»‬،‭ ‬تولد‭ ‬عن‭ ‬اغتراب‭ ‬تصومع‭ ‬داخله‭ ‬الشاعر‭ ‬وأصبح‭ ‬له‭ ‬مفرداته‭ ‬المفعمة‭ ‬بالخوف‮ ‬‭ ‬والغرابة‭. ‬

وهنا‭ ‬يكمن‭ ‬مفتاح‭ ‬السفر‭ ‬المزمن‭ ‬في‭ ‬الخيال،‭ ‬أو‭ ‬السفر‭ ‬في‭ ‬‮«‬كسوف‭ ‬شعري‭/ ‬يجفل‭ ‬خارج‭ ‬السرب‭/ ‬ليعتور‭ ‬سماء‭ ‬القصيدة‭/ ‬ويطلق‭ ‬الرؤى‮»‬،‭ ‬وستصبح‭ ‬القواميس‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬تفسير‭ ‬مغزى‭ ‬هذا‭ ‬الاغتراب،‭ ‬كما‭ ‬يذكر‭ ‬‮«‬فرويد‮»‬‭ ‬ذلك‭: ‬‮«‬لأن‭ ‬اللغة‭ ‬ذاتها‭ ‬تصبح‭ ‬دائمًا‭ ‬غريبة،‭ ‬وأن‭ ‬دورنا‭ ‬أن‭ ‬نبعث‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الجثة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬النص،‭ ‬محاولين‭ ‬أن‭ ‬نجعل‭ ‬الغريب‭ ‬مألوفًا»؛‭ ‬فهل‭ ‬أصبح‭ ‬الغريب‭ ‬مألوفًا‭ ‬لدى‭ ‬العماري؟‭!‬،‭ ‬ولن‭ ‬تكون‭ ‬الإجابة‭ ‬بنعم،‭ ‬أو‭ ‬لا،‭ ‬وإنما‭ ‬الإجابة‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكتبه‭ ‬أو«القصيدة‭ ‬الحلم‮»‬‭. ‬

‭*‬من‭ ‬كتاب‭ )‬المرآة‭ ‬والصورة‭(‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى