ثقافة

نقــد الكاتب محمد سحيم … سيزيف الليبى

انتصار بوراوي

فى‭ ‬كتاب‭ )‬سيزيف‭ ‬ليبي‭( ‬يروي‭ ‬الكاتب،‭ ‬والقاص‭ ‬محمد‭ ‬سحيم‭ ‬تجربته‭ ‬الحياتية،‭ ‬وسيرته‭ ‬الذاتية‭ ‬بأسلوب‭ ‬سردي‭ ‬لا‭ ‬يعتمد‭ ‬كثيرًا‭ ‬على‭ ‬الزخرفة‭ ‬البلاغية‭ ‬قدر‭ ‬اهتمامه‭ ‬بأنَّ‭ ‬يحكي‭ ‬حكاية‭ ‬أحلامه‭ ‬الكبيرة‭ ‬بالتغيير‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬والسياسي‭ ‬التى‭ ‬بدأها‭ ‬منذ‭ ‬عام2005‭  ‬حين‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬العشرينيات‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬عندما‭ ‬بدأ‭ ‬كتابة‭ ‬ونشر‭ ‬مقالاته‭  ‬الاجتماعية،‭ ‬والوطنية‭  ‬الناقدة،‭ ‬والنافذة‭ ‬إلى‭ ‬عمق‭ ‬مجتمعه‭ ‬الليبى‭ ‬التى‭ ‬كان‭ ‬ينشرها‭ ‬خارج‭ ‬صحف‭ ‬الدولة‭ ‬الرسمية‭ ‬قبل‭ ‬ثورة‭ ‬فبراير‭ .‬

فى‭ ‬كتابه‭ ‬الأول‭ )‬سيزيف‭ ‬ليبي‭( ‬يروي‭ ‬سحيم‭ ‬تجربته‭ ‬بأسلوب‭ ‬سردي‭  ‬يحلَّل‭ ‬فيه‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬تناقضات‭ ‬مجتمعنا‭ ‬الليبى‭  ‬وشيزوفرييته،‭ ‬وعنصريته‭ ‬وتنمهره‭ ‬على‭ ‬الكثيرين‭ ‬المختلفين‭ ‬عنه‭ ‬فى‭ ‬اللون،‭ ‬أوالجنسية‭  ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬يضع‭ ‬أصبعه‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬تربية‭ ‬الذكر‭ ‬الليبي‭ ‬القائمة‭ ‬في‭ ‬كثيرٍ‭ ‬منها‭  ‬على‭ ‬العنف‭ ‬اللفظي،‭ ‬والجسدي‭ ‬باعتبارهن‭ ‬معيار‭ ‬ًا‭ ‬للرجولة‭ ‬ورغم‭ ‬ولادة‭ ‬وتربية‭ ‬الكاتب‭ ‬فى‭ ‬حي‭ ‬شعبي‭ ‬معروف‭ ‬من‭ ‬أحياء‭ ‬بنغازى‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يتماهَ‭ ‬مع‭ ‬تربية‭ ‬الذكور‭ ‬حوله‭ ‬فى‭ ‬مجتمعه‭  ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬لديه‭ ‬نظرة‭ ‬نقدية‭ ‬ممتزجة‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬السخرية‭ ‬للتربية‭ ‬الليبية‭ ‬العتيدة،‭ ‬والعتيقة‭ ‬للطفل‭ ‬الذكر‭ ‬فى‭ ‬المجتمع‭ ‬الليبى‭ ‬كما‭ ‬أنه‭  ‬امتلك‭ ‬الوعي‭ ‬الحاد‭ ‬نتيجة‭ ‬إطلاعه‭ ‬وقراءته‭ ‬لطبيعة‭ ‬الشخصية‭ ‬الليبية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬العنف‭ ‬معيارًا‭ ‬للرجولة،‭ ‬وهو‭ ‬المعيار‭ ‬الذى‭ ‬يرفضه‭ ‬ويقول‭ ‬عنه‭ ‬فى‭ ‬مقطع‭ ‬من‭ ‬كتابه‭ )‬سيزيف‭ ‬الليبي‭( : ‬أنّ‭ ‬أمنع‭ ‬نفسى‭ ‬من‭ ‬العنف،‭ ‬ألا‭ ‬أضع‭ ‬نفسى‭ ‬فى‭ ‬موقف‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬فيه‭ ‬مخيرًا‭ ‬بين‭ ‬أن‭ ‬أهشم‭ ‬وجه‭ ‬أحدهم‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يحدث‭ ‬العكس‭ ‬هو‭ ‬التزام‭ ‬ومسيرة‭ ‬ليست‭ ‬هينة،‭ ‬أخفقت‭ ‬ومازلت‭ ‬أخفق‭ ‬بين‭ ‬حين‭ ‬وآخر،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬يكون‭ ‬العنف‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬المرات‭ ‬لفضيًا‭ ‬لكني‭ ‬أقاوم‭ ‬هذه‭ ‬الطبيعة‭ ‬التى‭ ‬فرضها‭ ‬وكونها‭ ‬أسلوب‭ ‬العيش‭ ‬والثقافة‭(.‬

يرفض‭ ‬الكاتب‭  ‬العنف‭ ‬كأسلوب‭ ‬ومنهج‭ ‬تربية‭ ‬فى‭ ‬العائلة‭ ‬الليبية‭ ‬بفضل‭ ‬وعيه‭ ‬وثقافته‭ ‬وادراكه‭ ‬بأنه‭ ‬طريق‭ ‬عواقبه‭ ‬وخيمة‭. ‬

تتحرك‭ ‬أزمنة‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭  ‬للكاتب‭ ‬محمد‭ ‬سحيم‭ ‬وتتأرجح‭ ‬كبندول‭ ‬الساعة‭ ‬بين‭ ‬عدة‭ ‬أزمنة

‭- ‬زمن‭ ‬حكم‭ ‬القذافى‭ ‬

‭- ‬زمن‭ ‬وسنوات‭ ‬ثورة‭ ‬فبراير‭ ‬

‭- ‬زمن‭ ‬وسنوات‭  ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬الأرهاب‭ ‬التى‭ ‬جرت‭ ‬فى‭ ‬مدينة‭ ‬بنغازي‭ ‬

يروى‭ ‬الكاتب‭ ‬بكتابه‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬تفاصيل‭ ‬زمن‭ ‬القذافي‭ ‬وسنوات‭ ‬الطفولة‭ ‬والشباب‭ ‬وحدة‭ ‬الوعى‭ ‬والثقافة‭ ‬والفهم‭ ‬لحكمه‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬يضغط‭ ‬بتسلطه‭ ‬على‭ ‬أحلام‭ ‬الشباب‭ ‬وتطلعاتهم‭ ‬مما‭ ‬جعله‭ ‬ينشر‭ ‬مقالته‭ )‬ريس‭ ‬البلاد‭( ‬فى‭ ‬بداية‭ ‬فبراير‭ ‬من‭ ‬عام2011‭ ‬م‭   ‬التى‭ ‬خاطب‭ ‬فيها‭ ‬القذافى‭ ‬طالبًا‭ ‬منه‭ ‬منح‭ ‬الشعب‭ ‬الليبى‭ ‬حقه‭ ‬فى‭ ‬حرية‭  ‬تكوين‭ ‬الأحزاب‭ ‬وإجراء‭ ‬الانتخابات،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬القبض‭ ‬عليه‭ ‬بعد‭ ‬نشرها‭ ‬وأودع‭ ‬فى‭ ‬السجن‭ ‬لمدة‭ ‬سبعة‭ ‬أشهر‭ ‬ويتحدث‭ ‬الكاتب‭ ‬عن‭ ‬تجربة‭ ‬السجن‭ ‬وما‭ ‬تعرض‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬ضرب‭ ‬وتعذيب‭ ‬وإهانة‭ ‬فى‭ ‬سجون‭ ‬القذافى‭  ‬وهى‭ ‬التجربة‭ ‬المريرة‭ ‬التى‭ ‬حفرتْ‭ ‬فى‭ ‬ذهن‭ ‬وعقل‭ ‬الكاتب‭ ‬فروى‭ ‬بعض‭  ‬تفاصيلها‭ ‬بأسلوب‭ )‬الفلاش‭ ‬باك‭(  ‬الذى‭  ‬تتحرك‭  ‬الأزمنة‭ ‬فيه‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الماضى‭ ‬والحاضر‭  ‬فى‭ ‬محاولة‭ ‬لتحليل‭ ‬ومعرفةالأحداث‭ ‬كيف‭ ‬حدثت؟،‭  ‬ولماذا‭ ‬حدثت؟،‭ ‬وكيف‭ ‬حدثت؟

وتنتقل‭ ‬السردية‭ ‬السير‭ ‬ذاتية‭ ‬بين‭ ‬الأزمنة‭ ‬وتستدعى‭ ‬ذاكرة‭ ‬الكاتب‭ ‬زمن‭ ‬الطفولة‭ ‬فى‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضى‭ ‬وعالم‭ ‬القناة‭ ‬الواحدة‭ ‬ووجه‭ ‬حاكم‭ ‬البلاد‭ ‬المسلط‭ ‬شبه‭ ‬يوميًا‭ ‬عبر‭ ‬قناته‭ ‬وعالم‭ ‬اللون‭ ‬الواحد‭ ‬ولكن‭ ‬رغم‭ ‬قتامة‭ ‬وعتامة‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬يعثر‭ ‬الكاتب‭ ‬على‭ ‬الضوء‭ ‬عبر‭ ‬عالم‭ ‬الفن‭ ‬والغناء‭ ‬الذى‭ ‬جسده‭ ‬فى‭ ‬عقل‭ ‬ووعى‭ ‬طفولته‭ ‬مطرب‭ ‬الأطفال‭ )‬جابر‭ ‬عثمان‭( ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬يحاول‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الكاتب‭  ‬أن‭ ‬يزرع‭ ‬ألوانًا‭ ‬مغايرة‭ ‬ونهجًا‭ ‬مغايرًا‭ ‬من‭ ‬العذوبة‭ ‬ومحبة‭ ‬الخير‭ ‬والجمال‭ ‬فى‭ ‬نفوس‭ ‬الأطفال‭ ‬عبر‭ ‬أغانيه،‭ ‬وهو‭ ‬النهج‭ ‬الذى‭ ‬حاربه‭ ‬القذافى‭ ‬باعتباره‭ ‬معاديًا‭ ‬لطريقته‭ ‬وأسلوبه‭ ‬فى‭ ‬زرع‭ ‬العنف‭ ‬والقوة‭ ‬الذكورية‭ ‬عبر‭ ‬منظمته‭ )‬أشبال‭ ‬وسواعد‭ ‬الفاتح‭( ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬الوعى‭ ‬المبكر‭ ‬لدى‭ ‬عقل‭ ‬الكاتب‭ ‬وذهنه‭ ‬يظهر‭ ‬فى‭ ‬نقده‭ ‬وتحليلاته‭ ‬لتلك‭ ‬المرحلة‭ ‬بكتابه‭ ‬الذى‭ ‬يزخر‭ ‬بتحليل‭ ‬الحالة‭ ‬الليبية‭ ‬برؤية‭ ‬نقدية‭ ‬ثاقبة‭ . ‬

وينتقل‭ ‬الكاتب‭ ‬فى‭ ‬فصل‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬كتابه‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬زمنية‭ ‬أخرى‭ ‬حين‭ ‬سافر‭  ‬للدراسة‭ ‬فى‭ ‬بريطانيا‭ ‬حيث‭ ‬الاختلاف‭ ‬والتنوع‭ ‬والصداقات‭ ‬مع‭ ‬المختلفين‭ ‬فى‭ ‬العقل‭ ‬والفكر‭ ‬وعلاقته‭ ‬بالمرأة‭ ‬عبر‭  ‬صداقته‭ ‬بطالبة‭ ‬انجليزية‭ ‬خلال‭ ‬فصول‭ ‬دراسته‭ ‬للغة‭ ‬الانجليزية‭ ‬ولكنه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬يرجع‭ ‬للبلاد‭ ‬حين‭ ‬تصله‭ ‬أخبار‭ ‬حدوث‭ ‬الحرب‭ ‬بمدينة‭ ‬بنغازى‭ ‬كى‭ ‬يكون‭ ‬بجانب‭ ‬عائلته‭ ‬وأهل‭ ‬مدينته‭ ‬ويتحدث‭ ‬الكاتب‭ ‬عن‭ ‬مرحلة‭ ‬الحرب‭ ‬ويستعيد‭ ‬معه‭ ‬القارىء‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬تفاصيل‭ ‬يلات‭ ‬وعذاب‭ ‬النزوح‭ ‬وسقوط‭ ‬القذائف‭ ‬على‭ ‬مناطق‭ ‬وأحياء‭ ‬بنغازى،‭ ‬وعمله‭ ‬مع‭ ‬جمعية‭ ‬خيرية‭  ‬إغاثية‭ ‬لمساعدة‭ ‬المكتوين‭ ‬بنار‭ ‬الحرب‭ ‬الذين‭ ‬نزحوا‭ ‬من‭ ‬بيوتهم‭ ‬ويروي‭ ‬الكاتب‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الفصل‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬تفاصيل‭  ‬العمل‭ ‬الخيري‭ ‬وخفايا‭ ‬وكواليس‭ ‬الصعوبات‭ ‬التى‭ ‬واجهته‭ ‬مع‭ ‬صديقه‭ ‬فى‭ ‬خضم‭ ‬العمل‭ ‬الخيرى‭  ‬إلى‭  ‬أن‭ ‬تنتهى‭ ‬الحرب‭  ‬بالقضاء‭ ‬على‭ ‬الجماعات‭ ‬المتطرفة‭ ‬وعودة‭ ‬عائلته‭ ‬إلى‭ ‬بيتهم‭ ‬الذى‭ ‬لم‭ ‬يصبْ‭ ‬بأذى‭ ‬كبير‭ ‬نتيجة‭ ‬الحرب

يبدو‭ ‬مؤلف‭ )‬سيزيف‭ ‬ليبى‭(‬‭  ‬كعنوان‭ ‬كتابه‭  )‬سيزيف‭ ‬ليبي‭(  ‬يدحرج‭ ‬حجر‭ ‬أمانيه،‭ ‬وأحلامه‭ ‬الكبيرة‭ ‬والواسعة‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬الحرية‭ ‬والعدالة‭ ‬الإنسانية‭ ‬ولكن‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تتهاوى‭ ‬صخرة‭ ‬الأحلام‭ ‬والآمال‭ ‬العريضة‭ ‬فى‭ ‬هوة‭ ‬وقعر‭ ‬الواقع‭ ‬القاسى‭ ‬والقبيح‭ ‬الذى‭ ‬يسقطها‭  ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬يحاول‭ ‬فيها‭ ‬سيزيف‭ ‬الأحلام‭ ‬العريضة‭ ‬رفعها‭ ‬لأعلى‭  ‬قمة‭ ‬الجبل‭ .‬

كتاب‭ )‬سيزيف‭ ‬الليبي‭(  ‬هو‭ ‬أقرب‭ ‬للرواية‭ ‬منه‭ ‬للسيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬بأسلوبه‭ ‬السردي‭ ‬الجميل‭  ‬الذى‭ ‬يتهادى‭ ‬بين‭ ‬الفصول‭ ‬متنقلاً‭ ‬بين‭ ‬مراحل‭  ‬زمنية‭ ‬متعدَّدة‭ ‬دون‭ ‬ترتيب،‭ ‬أو‭ ‬نظام‭ ‬كتعبير‭ ‬عن‭ ‬الفوضى‭ ‬وانعدام‭ ‬النظام‭ ‬قى‭ ‬الواقع‭ ‬والتجربة‭ ‬الحياتية‭ ‬للكاتب‭ ‬الممتزجة‭ ‬فى‭ ‬كثيرٍ‭ ‬من‭ ‬تفاصيلها‭ ‬مع‭ ‬تاريخ‭ ‬الوطن‭ ..‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى