ثقافة

هل تعود بلادي؟ عن الوطن والاستقلال وأشياء أخرى

سميرة البوزيدي

سحبني‭ ‬‮«‬جدي‮»‬‭ ‬بلينٍ‭ ‬وبدأ‭: ‬

‭ ‬ذاك‭ ‬الذي‭ ‬أسميتُ‭ ‬عليه‭ ‬والدكَ‭ ‬ليس‭ ‬كما‭ ‬تتوقعه‭ ‬شيخًا‭ ‬كبيرًا،‭ ‬وليس‭ ‬شهيدًا‭ ‬ولا‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬الصالحين‭ ‬أصحاب‭ ‬الروض،‭ ‬وليس‭ ‬لديه‭ ‬وِردٌ‭ ‬وأذكارٌ‭ ‬تدخلنا‭ ‬الجنة،‭ ‬تعودنا‭ ‬أن‭ ‬نهب‭ ‬أبناءنا‭ ‬أسماء‭ ‬هؤلاء،‭ ‬قد‭ ‬يستحقون،‭ ‬لكن‭ ‬صاحب‭ ‬الاسم‭ ‬الذي‭ ‬أسميتُ‭ ‬عليه‭ ‬والدكَ‭ ‬شاب‭ ‬بمرتبة‭ ‬شيخ،‭ ‬وبمكانة‭ ‬رجل‭ ‬صالح‭ ‬سيدخله‭ ‬فعله‭ ‬الجنة،‭ ‬شاب‭ ‬يافع‭ ‬أصيل،‭ ‬عرفته‭ ‬منذ‭ ‬الأربعينيات‭ ‬قبل‭ ‬استقلال‭ ‬‮«‬ليبيا‮»‬،‭ ‬تمرغ‭ ‬في‭ ‬ترابها‭ ‬من‭ ‬شرقها‭ ‬إلى‭ ‬غربها،‭ ‬كَحُوليّ‭ ‬وطني‭ ‬غير‭ ‬مشنون‭ ‬تربى‭ ‬في‭ ‬مراح‭ ‬أمه‭.‬

كان‭ ‬الشابُ‭ ‬للتوٍ‭ ‬قد‭ ‬أنهى‭ ‬ضم‭ ‬أزرار‭ ‬بدلته‭ ‬وعقد‭ ‬خيط‭ ‬حذائه،‭ ‬عندما‭ ‬وصل‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬قوس‭ ‬‮«‬الأخوين‭ ‬فيليني‮»‬‭ ‬ــ‭ ‬نقطة‭ ‬العبور‭ ‬بين‭ ‬الشرق،‭ ‬والغرب‭ ‬قرب‭ ‬اجدابيا‭ ‬ـ‭ ‬والمدفونين‭ ‬تحته‭ ‬كما‭ ‬يُشاع،‭ ‬وصل‭ ‬إليه‭ ‬مبعوث‭ ‬من‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬المبعوث‭ ‬الأممي‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬تصريح‭ ‬عبور‭ ‬فرخصته‭ ‬الأممية‭ ‬صك‭ ‬مختوم،‭ ‬هو‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬مهمة‭ ‬للمنطقة،‭ ‬استقبله‭ ‬الأصيل‭ ‬بحفاوة،وأمّن‭ ‬له‭ ‬مبيتًا‭ ‬يليق‭ ‬بصفته‭ ‬العالية،‭ ‬علم‭ ‬منه‭ ‬أنه‭ ‬يجمع‭ ‬تقاريره‭ ‬عن‭ ‬أحوال‭ ‬الليبيين،‭ ‬وعما‭ ‬إذا‭ ‬كانوا‭ ‬شعبًا‭ ‬مؤهلاً‭ ‬لإقامة‭ ‬دولة‭ ‬مستقلة‭!.‬

شعر‭ ‬الشاب‭ ‬برغبة‭ ‬في‭ ‬البكاء‭ ‬وقال‭ ‬في‭ ‬صدره‭: )‬بعض‭ ‬الأحلام‭ ‬إذا‭ ‬تحققتْ‭ ‬كعودة‭ ‬المحبين‭ ‬من‭ ‬الموت،‭ ‬فهل‭ ‬تعود‭ ‬بلادي؟‭!(‬،‭ ‬كان‭ ‬الأممي‭ ‬الأمريكي‭ ‬اللاتيني‭ ‬ببشاشته‭ ‬ووعيه‭ ‬بالدور‭ ‬المنوط‭ ‬به‭ ‬مرتاحًا‭ ‬للشاب‭ ‬الأصيل،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬لترحابه‭ ‬وضيافته‭ ‬المهلَّلتين،‭ ‬بقدر‭ ‬سعادته‭ ‬بتمكنه‭ ‬من‭ ‬الحديث‭ ‬معه‭ ‬بالإنجليزية‭ ‬بلا‭ ‬مترجم،‭ ‬أخبره‭ ‬المبعوث‭ ‬أنه‭ ‬سيكمل‭ ‬جولته‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬المناطق‭ ‬الشرقية‭ ‬بالجبل‭ ‬الأخضر‭ ‬والبطنان‭ ‬وحتى‭ ‬الواحات،‭ ‬ويتمنى‭ ‬أن‭ ‬يجده‭ ‬هنا‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬عودته،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬شكره‭ ‬وركب‭ ‬سيارته‭ ‬وغادر‭ ‬بمرافقة‭ ‬حارسه‭ ‬وسيارة‭ ‬أخرى‭ ‬تحمل‭ ‬المؤونة‭!‬

منذ‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭ ‬والشاب‭ ‬يرسم‭ ‬راية‭ ‬ليبيا،‭ ‬وجيشها،‭ ‬يلون‭ ‬خريطة‭ ‬مدنها،‭ ‬أمست‭ ‬النجوم‭ ‬أقرب‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬ذي‭ ‬قبل‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬اعتاد‭ ‬النَّوم‭ ‬يعدها،‭ ‬ويقص‭ ‬لكل‭ ‬نجمة‭ ‬حكاية‭ ‬من‭ ‬حكايا‭ ‬نجوعهم‭ ‬حتى‭ ‬تنام‭ ‬كل‭ ‬النجوم،‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬صار‭ ‬عنده‭ ‬قريبًا‭ ‬حتى‭ ‬المطر،‭ ‬يطمئن‭ ‬نفسه‭ ‬وهو‭ ‬القلق‭ ‬والخائف‭ ‬والمتحمس‭ ‬لعودة‭ ‬صاحبه‭ ‬اللاتيني‭ ‬بتقريره‭ ‬المهم،‭ ‬متخوفًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يسرق‭ ‬الجوع‭ ‬والجهل‭ ‬والمرض،‭ ‬والأمية‭ ‬أهليّة‭ ‬المشروع‭ ‬الاستقلالي،‭ ‬وهو‭ ‬العارف‭ ‬بمآسي‭ ‬أهله،‭ ‬فقدٌ‭ ‬ومعتقلاتٌ‭ ‬وتعذيبٌ‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الطليان‭ ‬والإرتيريين،‭ ‬فكيف‭ ‬ستكون‭ ‬نتيجة‭ ‬التقرير‭ ‬؟‭!‬

‭ ‬وماذا‭ ‬قال‭ ‬اللاتيني‭ ‬يا‭ ‬‮«‬جدي‮»‬؟

‭ )‬جايكَ‭ ‬بالكلام‭(‬،‭ ‬لا‭ ‬تستعجل،‭ ‬القصة‭ ‬مذ‭ ‬كنتُ‭ ‬شابًا،‭ ‬ربما‭ ‬لها‭ ‬خمسون‭ ‬عامًا،‭ ‬المهم‭ ‬طاف‭ ‬المبعوث‭ ‬الأممي‭ ‬شرقًا‭ ‬كل‭ ‬القرى،‭ ‬والنجوع،‭ ‬والواحات،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تجولت‭ ‬سيارته‭ ‬قبلها‭ ‬في‭ ‬طرابلس‭ ‬والجبل‭ ‬الغربي‭ ‬لم‭ ‬تترك‭ ‬قرية‭ ‬ولا‭ ‬واديًا،‭ ‬ووقف‭ ‬على‭ ‬جوع‭ ‬الليبيين‭ ‬الحُفاة،‭ ‬ثوب‭ ‬الصيف‭ ‬هو‭ ‬ثوب‭ ‬الشتاء،‭ ‬في‭ ‬بيوت‭ ‬الصفيح‭ ‬والشعر،‭ ‬تغتسل‭ ‬مآقيهم‭ ‬بصهد‭ ‬القبلي،‭ ‬وتملأ‭ ‬عواصف‭ ‬الأوبئة‭ ‬رئاتهم،‭ ‬فتك‭ ‬بهم‭ ‬وأطفالهم‭ ‬الطاعون‭ ‬والجدري‭ ‬والأنيميا،‭ ‬رأى‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬دون‭ ‬وسيط‭ ‬وهم‭ ‬يؤثرونه‭ ‬على‭ ‬أنفسهم‭ ‬بعشائهم‭ ‬المكدود‭ ‬الذي‭ ‬لديهم،‭ ‬بعد‭ ‬أشهر‭ ‬أظنها‭ ‬ثلاثة‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬عاد‭ ‬ذلك‭ ‬الأممي‭ ‬اللاتيني‭ ‬ليجد‭ ‬الأصيل‭ ‬في‭ ‬انتظاره،‭ ‬تحت‭ ‬ذاك‭ )‬القوس‭( ‬في‭ ‬نقطة‭ ‬العبور‭!‬

‭- ‬وماذا‭ ‬قال‭ ‬اللاتيني‭ ‬يا«جدي‮»‬؟‭!.‬

ــ‭ )‬جايك‭ ‬بالكلام‭ ‬يا‭ ‬مقلاق‭(! ‬فضولي‭ ‬ولا‭ ‬أظنك‭ ‬تعرف‭ ‬حتى‭ ‬معنى‭ ‬لاتيني‭!‬

قابله‭ ‬بذات‭ ‬الترحاب‭ ‬وبلهفة‭ ‬زائدة،‭ ‬أخبره‭ ‬المبعوث‭ ‬بانتهاء‭ ‬جولته،‭ ‬وأنه‭ ‬بانتهائها‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬العهدة‭ ‬المالية‭ ‬التي‭ ‬خصصتها‭ ‬له‭ ‬البعثة‭ ‬الأممية،‭ ‬وبإمكان‭ ‬الشاب‭ ‬الأصيل‭ ‬الذي‭ ‬أحسن‭ ‬ضيافته‭ ‬أن‭ ‬يأخذها‭ ‬ويقتسمها‭ ‬مع‭ ‬زملائه‭.‬

هل‭ ‬تعلم‭ ‬ردّ‭ ‬الأصيل؟

نعم‭. ‬أخذ‭ ‬المال‭ ‬يا‭ ‬‮«‬جدي‮»‬‭.‬

خسئت‭ .. ‬هل‭ ‬رأيتنا‭ ‬نأخذ‭ ‬المال‭ ‬من‭ ‬الضيوف‭ !‬؟

    ‬ــ‭ ‬لكنه‭ ‬ليس‭ ‬ماله،‭ ‬مال‭ ‬الحكومة‭ ‬يا‭ ‬‮«‬جدي‮»‬‭.‬

    ‬ــ‭ ‬بل‭ ‬استهجن‭ ‬كلام‭ ‬اللاتيني،‭ ‬ردّ‭ ‬عليه‭: )‬إننا‭ ‬لا‭ ‬نقبل‭ ‬المال‭ ‬من‭ ‬الضيوف،‭ ‬فكيف‭ ‬بعهدة؟‭! ‬هذا‭ ‬في‭ ‬ثقافتنا‭ ‬عيب‭ ‬كبير،‭ ‬وعار،‭ ‬صحيح‭ ‬نحن‭ ‬فقراء‭ ‬

يا‭ ‬‮«‬سيدي‮»‬،‭ ‬لكننا‭ ‬نملك‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬تجعلنا‭ ‬نتعامل‭ ‬بها‭ ‬مع‭ ‬ترابنا‭ ‬وضيوفه‭! ‬هذا‭ ‬القوس‭ ‬القريب‭ ‬علامة‭ ‬وأثر‭ ‬نحتفظ‭ ‬به‭ ‬لضيوف‭ ‬مروا‭ ‬من‭ ‬هنا،‭ ‬ربما‭ ‬دفنوا‭ ‬هنا‭! ‬ولولا‭ ‬صفتك‭ ‬وإدارتك‭ ‬علينا،‭ ‬لتعاملنا‭ ‬مع‭ ‬تصرفك‭ ‬بأقسى‭ ‬من‭ ‬ذلك‭!(.‬

هل‭ ‬تعلم‭ ‬بماذا‭ ‬رد‭ ‬اللاتيني؟

نعم‭. ‬سجنه‭ ‬يا‭ ‬‮«‬جدي‮»‬‭.‬

أنا‭ ‬أيضًا‭ ‬توقعتُ‭ ‬ذلك،‭ ‬لكن‭ ‬المندوب‭ ‬الأممي‭ ‬مزق‭ ‬أمام‭ ‬الشاب‭ ‬الأصيل‭ ‬تقريره‭ ‬السلبي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحمله‭ ‬من‭ ‬جولة‭ ‬الفقر‭ ‬والطاعون،‭ ‬وقال‭:)‬شعب‭ ‬بهذه‭ ‬القيم،‭ ‬شعب‭ ‬به‭ ‬أمثالك‭ ‬مؤهل‭ ‬لقيام‭ ‬دولة‭ ‬مستقلة،‭ ‬سيكون‭ ‬ذلك‭ ‬تقريري‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬سأسلمه‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة‭(.‬

ذلك‭ ‬الشاب‭ ‬الأصيل‭ ‬يا‭ ‬ولدي،‭ ‬ضابط‭ ‬ليبي،‭ ‬من‭ ‬نواة‭ ‬الجيش‭ ‬الليبي‭ ‬قبل‭ ‬استقلال‭ ‬ليبيا،‭ ‬ألا‭ ‬يستحق‭ ‬هذا‭ ‬الشاب‭ ‬أن‭ ‬أسمي‭ ‬عليه‭ ‬والدك؟‭! .. ‬هل‭ ‬تعلم؟‭! ‬حتى‭ ‬عهد‭ ‬قريب،‭ ‬لا‭ ‬زال‭ ‬هذا‭ ‬اللاتيني‭ ‬يعمل‭ ‬بالأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬وأعاد‭ ‬القصة‭ ‬بأمانة‭ ‬لأحد‭ ‬مبعوثينا‭ ‬هناك‭.‬

ــ‭ ‬لكنك‭ ‬لم‭ ‬تخبرني‭ ‬بعد‭ ‬عن‭ ‬الأسم‭ ‬المعني‭ ‬يا‭ ‬‮«‬جدي‮»‬‭.‬

ــ‭ ‬بعض‭ ‬الأسئلة‭ ‬غبية،‭ ‬لا‭ ‬أُحسن‭ ‬الرد‭ ‬عليها‭!‬

بكيت‭ ‬أمام‭ ‬‮«‬إيشّي‮»‬،‭ ‬وبكت‭ ‬‮«‬إيشّي‮»‬‭ ‬أيضًا،‭ ‬بكتْ‭ ‬وهي‭ ‬تستمع‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬مناسبة‭ ‬الاسم‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬القصة‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬ليست‭ ‬من‭ ‬خيال‭ ‬روائي،‭ ‬قالت‭ ‬‮«‬إيشّي‮»‬‭ )‬لو‭ ‬كان‭ ‬لهذا‭ ‬التراب‭ ‬قدمان‭ ‬لرحل،‭ ‬نحن‭ ‬البشر‭ ‬مجرد‭ ‬أحذية‭ ‬خائنة،‭ ‬أظنكم‭ ‬خُنتم‭ ‬ذلك‭ ‬الشاب‭ ‬الوطني،‭ ‬ودفنتم‭ ‬ما‭ ‬قال‭ ‬مع‭ ‬عضويات‭ ‬الأرض‭ ‬صار‭ ‬جالون‭ ‬بنزين‭(‬،‭ ‬لحظتها‭ ‬نظرتُ‭ ‬في‭ ‬عيني‭ ‬‮«‬إيشّي‮»‬‭ ‬مطولاً،‭ ‬رأيتُ‭ ‬في‭ ‬عينيها‭ ‬خرائط‭ ‬لم‭ ‬أعهدها‭!‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى