
سحبني «جدي» بلينٍ وبدأ:
ذاك الذي أسميتُ عليه والدكَ ليس كما تتوقعه شيخًا كبيرًا، وليس شهيدًا ولا هو من الصالحين أصحاب الروض، وليس لديه وِردٌ وأذكارٌ تدخلنا الجنة، تعودنا أن نهب أبناءنا أسماء هؤلاء، قد يستحقون، لكن صاحب الاسم الذي أسميتُ عليه والدكَ شاب بمرتبة شيخ، وبمكانة رجل صالح سيدخله فعله الجنة، شاب يافع أصيل، عرفته منذ الأربعينيات قبل استقلال «ليبيا»، تمرغ في ترابها من شرقها إلى غربها، كَحُوليّ وطني غير مشنون تربى في مراح أمه.
كان الشابُ للتوٍ قد أنهى ضم أزرار بدلته وعقد خيط حذائه، عندما وصل إليه في قوس «الأخوين فيليني» ــ نقطة العبور بين الشرق، والغرب قرب اجدابيا ـ والمدفونين تحته كما يُشاع، وصل إليه مبعوث من الأمم المتحدة، لم يكن المبعوث الأممي بحاجة إلى تصريح عبور فرخصته الأممية صك مختوم، هو فقط في مهمة للمنطقة، استقبله الأصيل بحفاوة،وأمّن له مبيتًا يليق بصفته العالية، علم منه أنه يجمع تقاريره عن أحوال الليبيين، وعما إذا كانوا شعبًا مؤهلاً لإقامة دولة مستقلة!.
شعر الشاب برغبة في البكاء وقال في صدره: )بعض الأحلام إذا تحققتْ كعودة المحبين من الموت، فهل تعود بلادي؟!(، كان الأممي الأمريكي اللاتيني ببشاشته ووعيه بالدور المنوط به مرتاحًا للشاب الأصيل، ليس فقط لترحابه وضيافته المهلَّلتين، بقدر سعادته بتمكنه من الحديث معه بالإنجليزية بلا مترجم، أخبره المبعوث أنه سيكمل جولته من هنا إلى المناطق الشرقية بالجبل الأخضر والبطنان وحتى الواحات، ويتمنى أن يجده هنا مرة أخرى في عودته، بعد أن شكره وركب سيارته وغادر بمرافقة حارسه وسيارة أخرى تحمل المؤونة!
منذ تلك الليلة والشاب يرسم راية ليبيا، وجيشها، يلون خريطة مدنها، أمست النجوم أقرب إليه من ذي قبل وهو الذي اعتاد النَّوم يعدها، ويقص لكل نجمة حكاية من حكايا نجوعهم حتى تنام كل النجوم، كل شيء صار عنده قريبًا حتى المطر، يطمئن نفسه وهو القلق والخائف والمتحمس لعودة صاحبه اللاتيني بتقريره المهم، متخوفًا من أن يسرق الجوع والجهل والمرض، والأمية أهليّة المشروع الاستقلالي، وهو العارف بمآسي أهله، فقدٌ ومعتقلاتٌ وتعذيبٌ من قبل الطليان والإرتيريين، فكيف ستكون نتيجة التقرير ؟!
وماذا قال اللاتيني يا «جدي»؟
)جايكَ بالكلام(، لا تستعجل، القصة مذ كنتُ شابًا، ربما لها خمسون عامًا، المهم طاف المبعوث الأممي شرقًا كل القرى، والنجوع، والواحات، بعد أن تجولت سيارته قبلها في طرابلس والجبل الغربي لم تترك قرية ولا واديًا، ووقف على جوع الليبيين الحُفاة، ثوب الصيف هو ثوب الشتاء، في بيوت الصفيح والشعر، تغتسل مآقيهم بصهد القبلي، وتملأ عواصف الأوبئة رئاتهم، فتك بهم وأطفالهم الطاعون والجدري والأنيميا، رأى ذلك كله دون وسيط وهم يؤثرونه على أنفسهم بعشائهم المكدود الذي لديهم، بعد أشهر أظنها ثلاثة أو أكثر عاد ذلك الأممي اللاتيني ليجد الأصيل في انتظاره، تحت ذاك )القوس( في نقطة العبور!
- وماذا قال اللاتيني يا«جدي»؟!.
ــ )جايك بالكلام يا مقلاق(! فضولي ولا أظنك تعرف حتى معنى لاتيني!
قابله بذات الترحاب وبلهفة زائدة، أخبره المبعوث بانتهاء جولته، وأنه بانتهائها لم يعد بحاجة إلى العهدة المالية التي خصصتها له البعثة الأممية، وبإمكان الشاب الأصيل الذي أحسن ضيافته أن يأخذها ويقتسمها مع زملائه.
هل تعلم ردّ الأصيل؟
نعم. أخذ المال يا «جدي».
خسئت .. هل رأيتنا نأخذ المال من الضيوف !؟
ــ لكنه ليس ماله، مال الحكومة يا «جدي».
ــ بل استهجن كلام اللاتيني، ردّ عليه: )إننا لا نقبل المال من الضيوف، فكيف بعهدة؟! هذا في ثقافتنا عيب كبير، وعار، صحيح نحن فقراء
يا «سيدي»، لكننا نملك القيم التي تجعلنا نتعامل بها مع ترابنا وضيوفه! هذا القوس القريب علامة وأثر نحتفظ به لضيوف مروا من هنا، ربما دفنوا هنا! ولولا صفتك وإدارتك علينا، لتعاملنا مع تصرفك بأقسى من ذلك!(.
هل تعلم بماذا رد اللاتيني؟
نعم. سجنه يا «جدي».
أنا أيضًا توقعتُ ذلك، لكن المندوب الأممي مزق أمام الشاب الأصيل تقريره السلبي الذي كان يحمله من جولة الفقر والطاعون، وقال:)شعب بهذه القيم، شعب به أمثالك مؤهل لقيام دولة مستقلة، سيكون ذلك تقريري الجديد الذي سأسلمه للأمم المتحدة(.
ذلك الشاب الأصيل يا ولدي، ضابط ليبي، من نواة الجيش الليبي قبل استقلال ليبيا، ألا يستحق هذا الشاب أن أسمي عليه والدك؟! .. هل تعلم؟! حتى عهد قريب، لا زال هذا اللاتيني يعمل بالأمم المتحدة، وأعاد القصة بأمانة لأحد مبعوثينا هناك.
ــ لكنك لم تخبرني بعد عن الأسم المعني يا «جدي».
ــ بعض الأسئلة غبية، لا أُحسن الرد عليها!
بكيت أمام «إيشّي»، وبكت «إيشّي» أيضًا، بكتْ وهي تستمع إلى «مناسبة الاسم» إلى القصة الحقيقية التي ليست من خيال روائي، قالت «إيشّي» )لو كان لهذا التراب قدمان لرحل، نحن البشر مجرد أحذية خائنة، أظنكم خُنتم ذلك الشاب الوطني، ودفنتم ما قال مع عضويات الأرض صار جالون بنزين(، لحظتها نظرتُ في عيني «إيشّي» مطولاً، رأيتُ في عينيها خرائط لم أعهدها!