سنحاول في هذه القراءة المبتسرة أن نُضيء تجربة الفنان التشكيلي الليبي معتوق أبوراوي متعددة الجوانب والرؤى من زاوية معينة , سنحاول عبر هذه السانحة أن نتناول وجوه أبوراوي أو بورتريهاته التي تختلف اختلافاً جذرياً عن بقية وجوه الفنانين الليبيين , فأبوراوي الذي يرى في الفن طاقة تعبيرية هائلة ويهبه كل وقته وجهده وماله , لا ينسى وهو يُشخص الداء ويتحسس مواطن العطب أن يضطلع بدوره كإنسان , في وقت تكاد تندثر فيه هاته الصفة وتنهار تحت ضربات معول الأنانية والنرجسية المتضخمة واللا مبالاة , والفنان لا يمكن أن يتنصل من مسئوليته تجاه الحياة , الحياة التي تستنجد بالفنان وتتشبت به لكي ينقدها من التدهور .
ليست تلك الوجوه التي تنضح من ملامحها الدعة والنعمة ولا تلك التي تغلفها الطمأنينة والرضا التي يرسمها أبوراوي , وجوه أبوراوي أنضجَ ملامحها الألم وشفَّها التعب وما انفكت الحيرة تلون معالمها التائهة , وجوه بلا هدف يشدها أو ضوء ترنو إليه , هكذا كيفما اتفق يعيش أصحابها وكيفما اتفق يموتون ويغيبون دون أن ينتبه لغيابهم العالم المشغول بلهوه, وجوه ألِفت الهامش واستمرأت الظل .
وجوه الفنان معتوق ابوراوي الذي تجاوز المرحلة الواقعية وهو الآن يتحرك داخل مرحلة تتسم بالتجريد أو التجريد النسبي تختلف كلياً عن كل الوجوه السابقة في المدونة التشكيلية الليبية , وجوه بعضها مغمضة العينين كما لو أنها تكتفي بما رأت من هذا العالم أو تحتج على قبحه المتفاقم , كما لو ان الشخصيات – سواء كانت ذكورية أو أنثوية – هنا مكتفية بما داخلها ولا تحتاج للخارج إلا بالقدر الذي تستزيد فيه من قيم الخير والجمال , وبما أن هذه القيم غير متاحة في الواقع المنظور لا تجد داعٍ لأن تفتح عينيها لترى ما لا يسرها , وكأن لسان حالها يردد ما جدوى الأنخراط في هكذا عالم لا يحتفي بالجمال ولا يحث على الأتساق , والوجوه هنا تحمل شيئا من الفنان الذي يحاول بما يمتلك من ألوان وخيال أن يصلح من حال العالم , سوى أن الخراب أكبر من أن يُرمم , وهنا الفنان لا يفعل أكثر من أن يغمض عينيه وفي خياله عالم اجمل قد يلوذ به , يفعل هذا بدلاً من أن يصرخ في وجه الخراب كما فعل إدوارد مونش التشكيلي النرويجي ذات لوحة , والإغماضة تلك طريقة من طرق الأحتجاج وإلا فبماذا نستطيع أن نفسرها. !!
وجوه أبوراوي , تلك التي ينجزها بألوانه المائية الثقيلة والشفافة لا تحمل ملامح معينة وهكذا هي لا تخص إنسان بذاته وتخص الكل في نفس الوقت , ذلك لأنها بملامحها المشوهة والمضخمة وبألوانها التي لا تنتمي للألوان الطبيعية للوجوه – وجوه زرقاء وأُخرى مبقعة بالأخضر والأحمر – والتي ينجزها على عجل كما لو انها اسكتشات أو تخطيطات أولية وبضربات حاسمة وتمريرات من الفرشاة العريضة دونما كثير تخطيط ودون اكتراث بالتشخيص والتعيين , وجوه ما أن تأخذ مكانها فوق السطح حتى تبدأ في محاكمة ومساءلة العالم المشغول بتكرير الخواء.
الفنان التعبيري الذي يبدو وإلى حد بعيد مشغولاً بهموم العالم ومتعاطفا مع فئاته المطحونة , ويدل على ذلك تناوله تشكيليا لمأساة المهاجرين الغير شرعيين الذي يبتلع البحر الكثير منهم في محاولتهم للعبور إلى الضفة الأخرى , حيث فرص الحياة أفضل وهربا من الموت المحتوم بفعل الحروب والمجاعات والأقتتال إلى الموت المحتمل , وحتى عندما تكون فرصة الحياة لا تتجاوز الواحد بالمائة مقابل التسعة وتسعون بالمائة الباقية التي ترجح كفة الموت , لا يتأخر هؤلاء في الأنحياز لخيار الواحد بالمائة ويبادروا بركوب الخطر , والفنان إذ يرى ويسمع عن هذه المأساة المتكررة كل يوم , لا يستطيع السكوت وإدارة ظهره في لا مبالاة , وإلا فما قيمة الفن إن لم يكن في خدمة الحياة , منحازا للمحرومين من حقوقهم الطبيعية وما قيمة الفنان إن لم يُسخر فنه للفت انتباه من لا ضمير لهم والمتاجرون بحياة البشر للتقليل من منسوب الخراب وكبح القبح , يفعل الفنان هذا الذي يرى أنهُ واجبا إنسانيا في ظل الشعور الجمعي بعدم قدرة الفن على تغيير الواقع إلى الأفضل , فكل المؤشرات تحيل إلى الإحباط والأستسلام واليأس , سوى أن الفنان لا ينفك يحاول كما لو انه غير معني بهذا الشعور الجمعي , لعله بذلك الإصرار وتلك المثابرة يؤسس لوعي جمعي إيجابي ويرسخ لمنظومة أخلاقية ينتمي إليها لاحقا كل من يؤمن بأنه إنسان يحمل هذه الصفة عن جدارة وليس بحكم العادة . وجوه ابوراوي في عدم تناسق ملامحها وتضخم تقاسيمها تحاكي ما ينطوي عليه أصحابها من وجع ومن تيه وحيرة وقلة حيلة لإحساسها بأنها متروكة في عراء الأيام ومُتخلى عنها ولا سند لها في هذا العالم , وعلى سكونها وهدوءها الظاهر , تضطرم دواخلها بما لا تستطيع الإفصاح عنه , فهي وإن لم تتحدث , تُفصح نظراتها الزائغة والحزينة أكثر من اللازم ووجوهها التي ترشح بالألم وعشوائية ألوانها عما يكتنفها من وجع , وتحيل الوجوه مطموسة أو ممحوة الملامح التي رسمها أبوراوي ذات تجلي إلى فكرة تشيؤ الإنسان بتصوري وعجزه عن تحقيق إنسانيته المهدورة كونهُ مفعولا به أكثر مما هو فاعلاً أو كونه مجرد رقم في قائمة طويلة لا نهاية لها , سيما وأنه رسمها بالمائية الشفافة التي توحي بالزوال السريع بعكس الألوان الأخرى التي تتسم بالوضوح والثبات والبقاء لفترة أطول .