ثقافة

وداعاً جوليا المجتمع السوداني تحت عدسة الفن السابع

سميرة البوزيدي

‭* ‬طاهر‭ ‬الفراح

يدعونا‭ ‬المخرج‭ ‬السوداني‭ ‬محمد‭ ‬كردفاني،‭ ‬في‭ ‬فيلمه‭ ‬الطويل‭ ‬الأول‭ ‬‮«‬وداعاً‭ ‬جوليا‮»‬،‭ ‬الحاصل‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬‮«‬الحرية‮»‬‭ ‬في‭ ‬المسابقة‭ ‬الجانبية‭ ‬لمهرجان‭ )‬كان‭( ‬‮«‬نظرة‭ ‬ما‮»‬‭ ‬لسنة‭ ‬2023‭ ‬للتأمّل‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬حياتنا‭ ‬اليومية،‭ ‬وما‭ ‬تحمله‭ ‬من‭ ‬تناقضات‭ ‬مؤذيةٍ‭ ‬و‭ ‬رُؤى‭ ‬عنصرية‭ ‬لا‭ ‬نُلقى‭ ‬لها‭ ‬بالاً،‭ ‬بل‭ ‬قد‭ ‬تبدو‭ ‬طبيعية‭ ‬أحيانًا،‭ ‬ولكنها‭ ‬تملأ‭ ‬نفوسنا‭ ‬بالحقد‭ ‬والكراهية‭ ‬وتقودنا‭ ‬تدريجيًّا‭ ‬للاقتتال‭ ‬والحرب،‭ ‬وهذا‭ ‬حرفيًا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬السودان‭  ‬على‭ ‬مدار‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬الحروب‭ ‬الأهلية‭ ‬المتكرَّرة‭.‬

‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬مقابلاته‭ ‬يخبرنا‭ ‬‮«‬كردفاني‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬ترك‭ ‬مهنته‭ ‬كمهندس‭ ‬طيران‭ ‬لينتقل‭ ‬للإخراج،‭ ‬والكتابة‭ ‬السينمائية،‭ ‬بأن‭ ‬فكرة‭ ‬الفيلم‭ ‬خرجتْ‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬إعلان‭ ‬نتائج‭ ‬تصويت‭ ‬انفصال‭ ‬جنوب‭ ‬السودان‭ ‬لتصبح‭ ‬دولة‭ ‬مستقلة‭ ‬سنة‭ ‬2011‭ ‬والذي‭ ‬بلغ‭ ‬نسبة‭ ‬التصويت‭ ‬فيه‭ ‬99‭ % ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬صدم‭ ‬‮«‬كردفاني‮»‬‭ ‬فعلاً‭ ‬كان‭ ‬عدم‭ ‬مبالة‭ ‬أهل‭ ‬الشمال‭ ‬لهذا‭ ‬الانفصال،‭ ‬وكأنّ‭ ‬مَنْ‭ ‬سينفصل‭ ‬عنه‭ ‬هو‭ ‬آخر‭ ‬غريب‭ ‬لا‭ ‬يعلم‭ ‬عنه‭ ‬شيئًا،‭ ‬ولا‭ ‬يعيش‭ ‬معه‭ ‬على‭ ‬البقعة‭ ‬نفسها‭ ‬من‭ ‬الأرض،‭ ‬وهذه‭ ‬الفترة‭ ‬الحرجة‭ ‬بالتحديد‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬اختارها‭ ‬لتكون‭ ‬زمنًا‭ ‬لأحداث‭ ‬فيلمه‭.‬

يحكي‭ ‬الفيلم‭ ‬قصة‭ .. ‬امرأتان،‭ ‬وهما‭ ‬‮«‬منى»؛‭ ‬المغنية‭ ‬المعتزلة‭ ‬التي‭ ‬تجد‭ ‬نفسها‭ ‬أسيرة‭ ‬الحياة‭ ‬الزوجية‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬طموحها‭ ‬وشغفها،‭ ‬و«جولي‮»‬ا؛‭ ‬الجنوبية‭ ‬التي‭ ‬فقدت‭ ‬زوجها‭ ‬لتجد‭ ‬نفسها‭ ‬غريبة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬طردتْ‭ ‬من‭ ‬منزلها‭ ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬شيئًا،‭ ‬و‭ ‬مسؤولة‭ ‬عن‭ ‬تربية‭ ‬ابنها‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬مجتمع‭ ‬يعاملها‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬أقل‭ ‬قيمة‭ ‬منه‭ ‬بسبب‭ ‬دينها،‭ ‬وجنسها‭.‬

إثر‭ ‬حدث‭ ‬صادم‭ ‬يبدأ‭ ‬به‭ ‬‮«‬كردفاني‮»‬‭ ‬فيلمه،‭ ‬تنشأ‭ ‬بين‭ ‬‮«‬منى‭ ‬وجولي‮»‬ا‭ ‬صداقة‭ ‬تحمل‭ ‬في‭ ‬طيّاتها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬التعقيدات،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬نتعمق‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬المجتمع‭ ‬السوداني‭ ‬لتشكل‭ ‬علاقتهما‭ ‬المحور‭ ‬الأساسي‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أبعاد‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬الدينية،‭ ‬والطبقية‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬ستأخذ‭ ‬منحى‭ ‬إنسانيًا‭ ‬هو‭ ‬لبّ‭ ‬ما‭ ‬يسعى‭ ‬الفيلم‭ ‬لترسيخه‭.‬

من‭ ‬ناحية‭ ‬فنية‭ ‬يغلب‭ ‬على‭ ‬الفيلم‭ ‬التصوير‭ ‬في‭ ‬المساحات‭ ‬الضيقة‭ ‬والأماكن‭ ‬المغلقة،‭ ‬واستخدام‭ ‬اللقطات‭ ‬القريبة‭ ‬للشخصيات‭ ‬عند‭ ‬التصوير‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬للحالة‭ ‬التي‭ ‬تعيشها‭ ‬الشخصيتان‭ ‬من‭ ‬قمع‭ ‬ذكوري‭ ‬سلطوي‭  ‬تعاني‭ ‬منه‭ ‬النساء‭ ‬عادةً‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬المنغلقة‭ ‬على‭ ‬نفسها،‭ ‬وتتجلّى‭ ‬هذه‭ ‬السيطرة‭ ‬في‭ ‬مشاهد‭ ‬اعتراف‭ ‬تحاكي‭ ‬الطقوس‭ ‬الدينية‭ ‬المسيحية،‭ ‬تقوم‭ ‬بها‭ ‬منى‭ ‬بشكل‭ ‬متكرَّر‭ ‬لزوجها‭ ‬طالبةً‭ ‬منه‭ ‬الغفران‭ ‬لأخطاء‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬الأساس‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬عقل‭ ‬الزوج‭ ‬الذي‭ ‬يمثّل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬دور‭ ‬القس‭.‬

‭ ‬المواضيع‭ ‬التي‭ ‬يتناولها‭ ‬فيلم‭ )‬وداعاً‭ ‬جوليا‭( ‬كثيرة‭ ‬وبعضها‭ ‬مكرَّر،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬فقد‭ ‬حاول‭ ‬الفيلم‭ ‬قدر‭ ‬الإمكان‭ ‬الإبتعاد‭ ‬عن‭ ‬الابتذال‭ ‬أو‭ ‬اللجوء‭ ‬للميلودراما‭ ‬بشكل‭ ‬مفرط،‭ ‬وهذا‭ ‬ناتج‭ ‬عن‭ ‬الكتابة‭ ‬الذكية‭ ‬التي‭ ‬تُعطي‭ ‬كل‭ ‬شخصية‭ ‬المساحة‭ ‬المناسبة،‭ ‬وتركز‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬الإنساني‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول؛‭ ‬فحتّى‭ ‬الشخصية‭ ‬السلبية‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬التي‭ ‬يمثلها‭ ‬الزوج‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أنّ‭ ‬نراها‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬الفيلم‭ ‬إلا‭ ‬كضحية‭ ‬مجتمعية‭ ‬هي‭ ‬الأخرى،‭ ‬ولو‭ ‬بصورة‭ ‬غير‭ ‬كاملة،‭ ‬وهذا‭ ‬كله‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ليخرج‭ ‬بهذا‭ ‬الشكل‭ ‬دون‭ ‬الأداء‭ ‬التمثيلي‭ ‬لكلتا‭ ‬الممثلتين‭ )‬ايمان‭ ‬يوسف‭(‬‭ ‬بدور‭ ‬منى،‭ )‬سيران‭ ‬رياك‭( ‬بدور‭ ‬جوليا‭ ‬الذي‭ ‬يغلب‭ ‬عليه‭ ‬الصمت‭ ‬والطابع‭ ‬المسرحي،‭ ‬وفي‭ ‬ذروة‭ ‬الأحداث‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬المشاهد‭ ‬إلا‭ ‬التسليم‭ ‬للشخصيات‭ ‬والتفاعل‭ ‬معهم‭ ‬بكل‭ ‬جوارحه‭.‬

مع‭ ‬الوصول‭ ‬لنهاية‭ ‬الفيلم‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬الحالة‭ ‬الإنسانية‭ ‬بدأتْ‭ ‬بالتلاشي‭ ‬وكأنها‭ ‬حلم،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬مختبئًا‭ ‬خلف‭ ‬الوجوه‭ ‬يخرج‭ ‬للشاشة‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬ليقدم‭ ‬للمشاهد‭ ‬صورةً‭ ‬أكثر‭ ‬حدة‭ ‬وواقعية‭ ‬للعلاقات‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الدقائق‭ ‬الأخيرة‭ ‬تبيّن‭ ‬النهاية‭ ‬السعيدة‭ ‬للمرأتين،‭ ‬فإنّ‭ ‬حالة‭ ‬الحرب‭ ‬كما‭ ‬نشاهد‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬وجدتْ‭ ‬لها‭ ‬جيلًا‭ ‬جديدًا‭ ‬لتنهكه،‭ ‬مما‭ ‬يترك‭ ‬المشاهد‭ ‬في‭ ‬تأملاته‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنقطع‭ ‬مع‭ ‬انتهاء‭ ‬زمن‭ ‬الفيلم‭ ‬داعيةً‭ ‬للتفكير‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬السودان‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬يبدو‭ ‬أنه‭ ‬دخل‭ ‬نفقًا‭ ‬مظلمًا‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬والنظر‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬أخرى‭ ‬أكثر‭ ‬إنسانية‭ ‬نكاد‭ ‬نفقدها‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الحالة‭ ‬العامة‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬العالم‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى