لن يجد الباحث في ديوان الشعر العربي منذ مطلع القرن الماضي ما يعطي الزعيم الوطني الكبير سليمان باشا الباروني حق الصدارة الشعرية التي تؤهله حرفيًّا لدورة من دورات الشعر الجمعي بالقياس إلى مشاهير مجايليه الذين ولجوا باب هذا الفن بقدر ما نجد أضعافًا مضاعفة عند النظر إليه من مدخل الجهاد الذي لا يُجارى والصمود الذي لا يعرف المستحيل فضلًا عن «الكاريزما»،
كما هو المصطلح العالمي، التي تجعل منه الفارس القادر على إحياء جميع القبائل الليبية إذا ما قبلنا النظرية القائمة على تقسيم ليبيا شعوبًا وقبائل، وارتفعنا إلى العمل الذي حدده -لا عاش من لم يرتق إلى مقاصده العظيمة في شَعره الذي شهد الحروب الهائلات، وعليه أُمطِرت القنابل كالصواعق نازلات- فيدرك من لا يعرف هذه النظرة أن طول شَعر الباروني بدءًا بِشَعرهِ وانتهاءً بلحيته لم يكن لتأثير مذهب فلسفي أو ديني، وإنما هو نذر الأبطال بالامتناع عن الحلق الدال على الزينة إلى حين خوض المعركة وكما جاء في مختتم المقطع الشعري فيحل الحلق عندما تعبر الجيوش القناة، ويرى طرابلس العزيزة والتي هي ليبيا بالكامل وليست الحارة الصغيرة أو باب الحرية كما يرى الذين تأسرهم مواطن مولدهم عن الوطن الضامن لوجودهم، لأن الباروني أكبر من مسقط رأسه وعشيرته وحتى مذهبه أيضًا، بدليل اختياره بومباي للعيش عندما أُجبِرَ على الهجرة.
صحيح أن العيش تفرضه الظروف، والرزق كذلك يذهب إليه الإنسان وليس العكس، إلا أن الألفاظ عادة أقوى الأدلة على التفكير وقد تمتد حتى تشمل النوايا، وهكذا رأينا الزعيم يُسخِّر طول الشَعر والتشبث به لما يريد الوطن وليس الحاكم، كما يلوح من العبث برسالة الشعر حين لم يوجد في الخطاب الذي رافق مناسبة اختيار الباروني على رأس دورة الشعر الليبي من مبدأ إعطاء ليبيا نصيبها في تكريم الأعلام، فلم يوجد في الخطاب الذي رافق هذه المناسبة النبيلة إن على لسان الثقافة أو الاتصالات، حيث التنازع على الاختصاص وبالأحرى المخصصات، فلا يجد المشاهد الذي تدفعه غريزة المتابعة لما يُبث من آن لآخر حول الثقافة والمثقفين والشعر والشعراء سوى هذا التناول الإخباري الخالي من أي روح، فيستشعر التوتر لولا البقية من الأمل الذي لا ملجأ لغيره كي تصغر الكوارث وتبتعد المُثبطات،
فنتذكر أننا بليبيا ولا مجال من ثم للاستغراب، فقد استمرأنا السيء في التخطيط والأسوأ في التنفيذ وبالذات ما يتعلق بالثقافة التي لم تشهد استخفافًا من الاستخفافات المحزنة كما يظهر جليًّا في أيامنا هذه، وقد يسوغ لي هنا التذكير بما دونت في «الشعر شهادة» عندما اتخذت من نصوص الأشقاء في تونس الرمز الدال على رفض الحظر الذي مورس ذات يوم على النص المُنتج محليًّا من شباب تلك الأيام، إن بدا ما يذكر بوجود الشبه بين الليلة والبارحة رغم استحالة ذلك تاريخيًّا، فالآتي دائمًا أجمل والشعر أبقى وأجدر باكتساب الحيز الذي لا سبيل إليه من دون الشواهد الناتجة عن آثار المُحتفى به أو التنظر الذي يستخرجه من يحسن استثمار المناسبة وهو ما لم تستطع الضجة الإعلامية التي اعتقدت بعض الأطراف أن تستفيد بها في الاصطفافات التي قد تفيد المصالح ولكنها لا تترك في مدونة النصوص ما يساوي ثمن المداد الذي أُنفق أو الطاقة التي أهدِرَت ومن باب أولى الأموال التي أنفِقَت، وكلما توفرت مبررات أوجه الصرف حق لمن يعيشون على موارد النفط ألا ييأسوا من عوائده.
بوابة الوسط 7_4_2024