البنت تخرج إلى الشارع برفقة والديها .. وتكبر وهي في كفي أمها وظهر أبيها .. تخرج إلى الشارع مرة أخرى مع أشقائها .. تلعب صحبة رفيقاتها ..الشارع ملعب أحلامها والبدايات..
بعد العصر ..قبل المغيب .. وفي الصباح أيضا.. تخرج وحيدة أو مع الرفيقات..
البنت تلعب ..تضع شريطا أحمرَ على شعرها يطوق خاصرة الجدائل.. في لعبة الحبل تقفز وتقفز حتى تلاحق الفراشات ..وتقفز وتركل حجرا وتتخطى الصناديق المربعة المرسومة على الأرض دون أن تفقد الحجر أو تخطيء موضع القدم في لعبة النقيزة..
البنت تختبيء حتى لا يراها أحدٌ وهي تلعب الغميضة ووابيس..
البنت تركل الكرة للصبي أبن الجيران حين تخطيء ركلته المرمى.. البنت تبتسم للكرة.. للصبي.. للشارع.. للرفاق..
في حلقات اللعب المشترك البنت تمسك خيطا بينها وبين الصبي حتى لا تلامس كفها كفه
وتلعب عروسة وعريس دون أن تبتسم أو تبدي علامات سعادة.. أي مفارقة تلك في أن يمنحها الشارع مساحة للعب كعروس لعريس ويمنعها عن ملامسة كفه في لعبة أخرى..
الشارع يعج بالفوضى.. بالأصوات.. بالضحك.. والبكاء أيضا حين السقوط والعراك..
البنت تعتاد الخروج.. تجري.. ترسم ضحكاتها على جدران البيوت في الأزقة وتحفر في تاريخ الذاكرة عطرها المعجون بالحناء والقرنقل وطعم اللبان و بين الجموع كشريك تلعب تضحك تقفز وتركل الكرة إذا لزم الأمر..
البنت تكبر والشريط الأحمر يصبح ثوبا.. يصبح جسدا.. يصبح عقدا في عنقها.. توصيها به الجدات وتدسه الأم لها بحرص كلما خرجت..
البنت تفتح عينيها كل صباح.. يناديها الشارع للعب ..تقف وسطه هذه الصباح ناظرة إلى السماء.. تطارد العصافير المهاجرة في أسراب وتحدق في شمس الظهيرة حتى تسيل دموعها بغزارة..
تراودها فكرة ..تتبعها.. تحاول مغادرة الشارع.. تقف في المنتصف وتسرح.. البنت تجلس لترسم وجه فتاة بشعر منسدل على التراب ببقايا أعواد الحلوى الملقاة هنا وهناك..
تفكر: ماذا لو جرت خلف الأبواب وحتى نهاية الشارع..
الشارع يهمس في الخفاء.. يسكن همسه طبلة أذنها ويعلق كقرط لا ينتزع..
صباحا، البنت تخرج بهدوء.. تمشي خطوات ثم تسرع .. الشارع مكتظ بالمارة يملؤه الضجيج ..
البنت تتمسك بالشريط الأحمر كما علموها.. تقف عند نهاية الشارع وتلتفت خلفها..
هاهي ..تراه كما لم يسبق لها أن رأته.. الشارع يبدو هذه المرة مكشرا و قاسيا وغريبا.. لا هو ملهى ألعابها وصندوق طفولتها ولا زواياه وأرصفته كراسي خلواتها ومسرحها الأول.. الشارع طُعم كبير..
تجري لتغادره.. يعلق بثوبها كطفل صغير لا يفارق أمه.. تركض ليسقط من ثوبها فيلتصق تاركا أصباغ الأبواب وأتربة الطرقات وغبار الجدران والبيوت وسواد النوافذ وأوساخ المجالس وسماء على ثوبها.. كم محرج ومخجل هو، كلما خرجت بعيدة عنه لاحقها..
البنت تعود لتبكي ثوبها كل يوم.. الشارع صار ممرا ضيقا لممشاها..
الشارع متاح لأولاد الجيران.. للكرة.. للبطش.. للدراجات.. للحجر الضال طريقه.. للأصوات العالية والحناجرة الخشنة .
البنت تستيقظ هذا الصبح.. تمضي حتى نهاية الشارع قاصدة الساحة الكييرة وحقيبتها الممتلئة بالكتب على ظهرها ..
البنت لا تنظر إلى الخلف هذه المرة.. تقف محدقة في قرص الشمس بغضب.. تتعلق بسحابة.. تنزع حذاءها وتخلع ثوبها المزين بالشريط الأحمر وترميه للشارع خلفها.. عارية تسلك الدروب وحافية تمسك خيط طائرة ورقيه وتمضي إلى حيث البحر والساحات والبيوت المضاءة والشوارع المفتوحة على كل النواحي
الشوارع التي لا تلتصق بالبنت وتشوه ثوبها.