السرد غير المباشر في قصيدة “حكمة الأعمى” لمفتاح العماري
عبدالحفيظ العابد
يتيح القص غير المباشر في هذا النمط من القصائد للسارد الشعري أنْ يتخفّى خلف أقوال الشخصيّات، لكن وبالرغم من غيابه فإنّ نقل هاته الأقوال يستدعي حضوره، يبدو ذلك بالقياس إلى الرواية، فالرواية التي لا يُمثَّل فيها أيّ راوٍ تستدعي صورة مؤلّف خفيّ في الكواليس، يتخذ صورة مخرج، أو محرّك للأحداث( )، وبما أنّ أقوال الشخصيّة تنقل في هذا الحكي الشعري على لسان السارد، فإنّ ذلك يتيح للنص الشعري أنّ يتحرّر من أحادية الصوت، ليكون القارئ أمام ثنائيّة الصوت، أو الأصوات المتعدّدة؛ ذلك أنّ السارد وهو ينقل أقوال الشخصيّة يمزجها بأقواله، أو بأقوال شخصيّات أخرى، وفي هذا السياق نقرأ النص التالي:
(حكمة الأعمى)( )
(1)
وحيدة
أسقط من شرفة الماء
يدثّرني صوتي
قالت: غيمة.
(2)
بغضّ النظر عن المتنبّي
قال شاعر مغرور
أنا
كوكب نفسي.
(3)
العين التي تقترح السواد
تكتشف الخارج
قال الأعمى.
(4)
تنحّيْ قليلاً
أيتها الصور
أريد يدي
أيتها الشوارع
أريد صوتي
قال المتسوّل.
يشي فعل القول المُثبت في كلّ مقاطع النص بالقص غير المباشر، ويعمل في الوقت نفسه على إبراز التشاكل البنائي المتمثّل في انتظام التعبير البادي في تأخير الفعل (قال) على المقول نفسه المتسم بطابعه الثنائي؛ ذلك أنه يحيل على صوت السارد الشعري والشخصيّات في الآن ذاته، يحدث هذا عندما يتولّى السارد نقل أقوال الشخصيّة في سياق القص، فيتداخل الصوتان، ويغدو الصوت مزدوجًا( )، وهذا يحقّق الحياد اللغوي المنشود الذي تبتعد به القصيدة عن دائرة الغنائية والذاتية عبر مزج صوت الشخصيّات بصوت السارد الشعري الذي لا يحضر بشكل مباشر، لكن أقوال الشخصيّات لا تُقدّم إلا على لسانه.
تُقرأ ثنائيّة الصوت هاته في ظلّ الرؤية المصاحبة المهيمنة على بنية النص المتسم بتكافؤ الرؤية بين السارد والشخصيّات، هذا التكافؤ أوجد نظامًا بنائيًا منتظماً، فالبرغم من انقسام النص إلى أربعة مقاطع مرقّمة تشبه قصائد قصيرة غير أنها تحكمها بنية واحدة، تتمثّل في السرد بضمير الغائب، وفي تقديم القول على الشخصيّات الأربع: الغيمة والشاعر والأعمى والمتسوّل التي تتسم بتشاكل جزئي؛ ذلك أنّ الغيمة تشذّ عن الشخصيّات الأخرى لكونها لا تحيل على ذات إنسانية، وهو ما يوحي بمجازية القول والغيمة في هذا السرد الشعري المتخيّل، وبالنظر في دلالة هذه المقاطع يمكن الكشف عن البؤرة الدلالية الكامنة في العنوان المتضمّن شخصيّة واحدة من هاته الشخصيّات وهو الأعمى، والعمى تعطيل لحاسة البصر، وكأنّ النص يقوم على ما يمكن تسميته بشعرية الحواس، فالشخصيّات تشترك في فعل القول الذي يفعّل الأذن، وهذا يشي بأهميّة الصوت في حياة المتسوّل، والشاعر، والأعمى الذي تغدو أذنه بديلًا عن العين المعطّلة، وفي وجود الغيمة التي تعلن سقوطها عبر صرختها المدوية، وهي بذلك تكتسب سمات سياقيّة من خلال نسبة الصوت إليها تزيل التعارض بينها والشخصيّات الأخرى، من هنا يتبدّى للقارئ دور تكرار فعل القول في انتظام التعبير والدلالة، وهو ما يؤدي إلى خلق نظام داخلي يبرز انتظام النص.
تحرّرت قصيدة النثر من أحادية الصوت في هذا القص الشعري غير المباشر، فغدت الشخصيّات شريكًا للسارد في الرؤية والأقوال، هذا السارد يؤكّد هويته بخلق هذا العالم الفنّي متخذًا مسافة بينه والكاتب، هاته المسافة تتيح للكاتب أنْ يرى نفسه واحدًا من قارئيه، واحدًا يخلقه لا على صورته، ولا نسخة عنه، وليس مجرّد صوت علني لصوته، ولا إعلانًا لموقفه الأحادي، وعينه الضيّقة، وهذا يشي بأهمية اقتراب قصيدة النثر من مناطق السرد لتنجز خطابها في ظلّ سلطة الرؤية السردية المصاحبة وتعدّد الأصوات الشعرية.