قراءة في أُغنيات الفاخري للظلال
يرى البعض إن الشعر لعبة لغوية، والبعض يضع الشعر في صف الغناء، لكنني أرى إن الشعر عملية فكرية (عقلية) بامتياز، لا يمكنها أن تكون نتاج العبث، أو الممارسة الاعتباطية. فالقارئ أو الدّارس للشعر العربي، من تاريخ القصيدة الشعرية الأولى إلى آخر نص (حقيقي) منشور على الفيسبوك، سنجد إن الشاعر يمارس لعبة عقلية (فكرية)، وإنه يعمد إلى ممارسة ألعابه المخاتلة، كالساحر يخطف عيون المتابعين له، معطلاً عقولهم بما يحدثه من دهشة.
هذه العملية العقلية، مرنة بشكل كبير، وقابلة للتطور والتحديث المستمر، ومسيرة الشعر العربي، تجربة غنية وثرية، بداية من المقطعات إلى تجارب الهايكو العربية، هذا الغنى في النصوص، والاتساع الافقي للممارسة الشعرية، والعمق الرأسي للمدارس أو الأشكال الشعرية، يضعنا على درب اليقين بعقلانية التجربة، حتى وهي تتسامى على لسان صوفي، أو تشتعل في قلب عاش، وتُبادر في يدي فارس.
وخارج لعبة العقل، فإن أهم ما يشدني في القصيدة، هو مهارة الشاعر في تشكيل صوره، كمشهد، أو مجموعة مشاهد، وما تحمله هذه المشاهد من دلالات، أو ما يستطيع الشاعر من خلال عقله من إكساب هذه المشاهد من محمولات ورسائل.
المسألة الأخرى التي أود التركيز عليها، هو تشكل هوية الشعر الليبي، ومن جهة الأدب الليبي، فقد استطاع النص الشعري الليبي (النص الشعري؛ والقصد جميع أشكال الشعر) أن يتخلص من طبيعة التلميذ، حد التفوق على الأستاذ (الشرق).
وأزعم أن الشعراء الشباب ومن خلال قدرة على الوصول والتواصل، في فضاء معرفي مفتوح وسهل الوصول فيه للمصادر، تمكنوا من أدواتهم مبكراً، مما أعانهم على التعبير عن أنفسهم وبيئتهم باستقلال واحترافية. وأستطيع القول إنه وبداية الألفية الثانية، عرف النص الشعري في ليبيا، مرحلة جديدة، مرحلة لم يعد في حاجة فيها للأستاذ، أو من يوجه دفة مشاعره، أو ما يقول، ولا أن يتبنى مواقف وشعارات تملى عليه. باختصار هو إعلان استقلال الشعر الليبي!
2
(أغنيات للظلال)1 للشاعر «أحمد علي الفاخري» مجموعة شعرية زاخرة بالصور، وضاجة بالشاعرية والعذوبة، لم يعزف فيها الشاعر ذات اللحن، فنوع إيقاعات نصوصه الشعرية، وبالتالي أبنية القصائد، من القصائد العمودية، ذات الشطرين والشطر كما في الرباعيات، إلى التفعيلة، في 35 قصيدة شعرية ماتعة.
أولى التقاطاتي في هذه المجموعة الشعرية، اهتمام «الفاخري» بنصه، واشتغاله عليه، والذي يظهر واضحاً في بناء النصوص الشعرية، فهي حتى وإن كانت تتبع العمود الشعري، كقالب، فإنها نصوص متماسكة لا تعاني من ترهل أو جفاف بعض أجزائها، فالنص يحافظ على طاقته الشعرية بداية من مطلعة وحتى ختامه، ليظل القارئ مشدوداً إليه. فهي عمل عقلي واعي، تظهر فيه شخصية الكاتب وعمقه المعرفي.
وهذا يقودنا للملاحظة الثانية؛ والتي نجد فيها إن الشاعر، في هذا الضبط الأشبه بالمنظومة، يعمل على تطعيم نصه بوحدات غاية في الدقة والانتظام حد الإبهار، فيحكم بها ضبط النص، ويشد أجزائه إليها؛ وسنجد إن هذه الوحدات، سواء كانت بيتاً أو وحدة تفعيلية، تأتي ضمن سياق النص كالإشارات. كما في نص (قلب هو الوطن الليبي)2:
الآن ندرك أن الحزن يجمعنا
لابد من وجعٍ كي ندرك الفرقَ
و:إنا نريد مصيراً يتقي أسف التاريخ،
حين تصاغ القصة الوثقى.
ونقتطف أيضاً من نص (الموت والملكوت)3:
يا حزنهم،
خفف عن الأحداق دمعك
ما لهم موت هم
إن هاهنا يحيون
أو يحيون في الملكوت.
هذه الوحدات، هي اشتغال ذكي من الشاعر «أحمد الفاخري»، وهي تعكس تمكن الشاعر من أدواته الشعرية، وهندسة النص بطريقة علمية ومنطقية، يعمل فيها وعي الشاعر وعقله على تكوين هذا البناء.
لنقف هنا عند الملمح الثالث في هذه المجموعة، ونعني لغة الشاعر، التي اتسمت بجزالة اللفظ وعمق المعنى، ولسبب ما وجدتني أستحضر الشاعر «أبو تمام»؛ «حبيب بن أوس الطائي»، ناحية الذكاء في استخدام اللغة، واستحضار المعاني عقلياً، قبل طرحها شعراً، فهو يقول4:
دعيني أحاور نفسي قليلاً
أعيد كتابة ما قد كتبت
أجيد انتظار النهايات
إني أجيد انتظارك…
وهو وإن كان يخاطب محبوبته، فهو في الحقيقة يخاطبها قصيدة، طالباً الإذن بمراجعة نفسه، ومراجعة ما هجس به، فهو لا يمل أن يعيد ويعيد حتى الوصول إلى النهاية، صبور. وأجدني هنا في دهشة من وصف الشاعر نفسه (أجيد انتظار النهايات/ إني أجيد انتظارك)، هذه الجملة الشعرية البسيطة العميقة المعنى، والبعيد التأثير والتصوير. جملة لا تحمل الكثير من التكلّف، واستطاعت تصوير المشهد بكل تفاصيله، وبلقطة واحدة، لتكون النتيجة: انتظار النهايات = انتظارك.
لغة «الفاخري» تكشف عن اهتمامه البالغ بها، وبمواضعها، وغنى قاموسه اللغوي والبلاغي، الأمر الذي جعل تراكيبه الشعرية مرنة، قابلة للتدوير.
3
هذه الملاحظات الثلاث، تتظافر من أجل أن يكون النص بنية مكتملة، يقدمها الشاعر متصلة الأجزاء، يجمعها موضوع النص الشعري، الذي يحافظ عليه الشاعر ويشتغل عليه. فحتى ما يستحضره الشاعر ويتماس وإياه أو قد يشده إليه، يحوله أو يسخره لخدمة موضوع النص.
وهنا مكمن ملاحظتنا الرابعة حول نصوص مجموعة «الفاخري»، حيث يحافظ الشاعر على الاتصال مع موضوع القصيدة، محافظاً على هذا الاتصال قوياً مهما تباين إيقاع النص. فعلى سبيل المثال، نجده في نصه (نشوة الموعود)، فلحظة الموعد ولقاء الموعود (كما في تعبير الشاعر) هو الخط العام للنص؛ وهنا يمكننا تمثيله كمحور أفقي، يوقع عليه الشاعر وقائع نشوة اللقاء كمحور رأسي، لتكون أقرب نقطة عليه (أراك ومحنة القبلات من شفتيك تشتد/ لها شررٌ/ تثير الربكة الأولى وتحتد)، وأبعدها على المحور الرأسي (رؤاك.. ونشوة الموعود.. والوعد/ ستنبت في جمود الروح رائحة الذكرى).
حركة تبدأ من الذكرى إلى الوجود المادي، منتجة نصاً يبدأ بعيداً وينتهي قريباً، في ثلاث انتقالات يعيد فيها الشاعر دورة الاقتراب من البعيد. وأجدني أمثل هذا النص رياضيا كالتالي:
ماذا بعد؟ ليس هذا كل شيء، فهذه المجموعة الشعرية تحفل بالكثير من الجمال، وعلى كل المستويات، من موضوعات القصائد واللغة والصور الرائعة التكوين التي أبدعها الشاعر، والتي لا يخلوا منها أي من نصوص المجموعة، كما سنجد ونحن ننتقل بينها، سعي الشاعر «أحمد الفاخري» على تحميل بعض نصوصها بعداً فكرياً من باب الحكمة، بالاعتماد على موضوع النص.
ختاماً، أغنيات للظلال، مجموعة شعرية تقدم صورة عما وصلت إليه التجربة الشعرية في ليبيا، على أكثر من صعيد، خاصة ونحن نستحضر سؤال «التليسي»5 في أذهاننا، لنجدنا على يقين بأن لدينا شعراء!
كأنني أشيح والرياح ما تزال
تبعثر الخريف والخريف ما يزال
يساقط الدموع والبشر
كأنما النخيل بطوله يفر
في ظله ملاحم الأجداد تستمر
كبذرة نمت لتحيا مثلها أخر
وتنضج الرؤوس في مواسم القطاف
وجدة لطفلة تقص ما تخاف
وترقب المطر
كأن أياما تمر دون أن تمر
ثم استدارت في فراغ دونما وطر
فقط لننتظر6.
1– أحمد علي الفاخري (أغنيات الظلال)، مكتبة طرابلس العلمية العالمية، طرابلس، 2022م.
2– المصدر السابق، ص: 90.
3– المصدر السابق، ص: 56.
4– المصدر السابق، ص: 125.
5– المقصود: سؤال الاديب الليبي خليفة التليسي؛ هل لدينا شعراء؟
6– أغنيات الظلال ص: 64.