عقب الحصول على الشهادة الإعدادية التحقت بمعهد المعلمين العام وبعد عامين تخرجت فيه وخلال أسبوع واحد فقط أستلمت قرار التعيين على وظيفة معلم بمدرسة تبعد عن مكان سكني حوالي ثلاثمائة كيلو متر.. شعرت بقيمتي كإنسان سيؤدي دوره في المجتمع وفرحت كثيرا للمهنة الجديدة..
اشتريت بدلة نوع سموكنغ بلون بني وربطة عنق مازلت أحتفظ بهما إلى اليوم.. وحذاء نوع شيكي عاش معي حوالي عشر سنوات..
لا أذكر أنني خرجت للسوق أو الشارع أو المقهى بملابس نوم أو ملابس رياضية أو (سباط أصبع) كنت محافظا على وقار وهيئة المعلم القدوة..
واصلت دراستي بمعهد المعلمين الخاص.. فكنت أقوم بالتدريس نهارا وأدرس بالفترة المسائية.. ورغم كل العراقيل استطعت نيل دبلوم خاص في مادة الاجتماعيات.. ثم واصلت دراستي الجامعية كمنتسب حتى تخرجت في كلية الآداب تخصص تاريخ..
كنت كما لو أني كشكول فقد قمت بتدريس جميع المواد في المرحلة الابتدائية.. تربية فنية ولغة عربية وتاريخ وجغرافيا وتربية وطنية وعلوم.. جميع المواد عدا الرياضيات..
كان مرتبي هزيلا لكنني وبحكمة عدم التبذير في الصرف استطعت التوفير منه.. وبعد عدة سنوات امتلكت سيارة وتزوجت بمساعدة والدي وأمي التي قدمت لي حليها المتواضعة..
بعد خمس وأربعين سنة من الكد والنشاط وغبار الطباشير والتنقل بين المدارس وصلتني رسالة تقاعدي من الخدمة ليصبح مرتبي أربعمائة وخمسين دينارا.. وللعلم لم أتلق أي رسالة خصم أو إنذار أو لفت نظر طيلة سنوات عملي بقطاع التعليم.. لكنني تلقيت شهادات تكريم وشكر وعرفان من مديري المدارس التي انتقلت إليها ومن وأولياء الأمور وإدارات التعليم المتعاقبة؛ مازلت أحتفظت بها إلى الآن..
أغلب أطباء مدينتي وضباطها ومهندسيها ومعلميها وطياريها دبلوماسيها كانوا تلاميذي.. أحظى باحترامهم وتقديرهم..
أمس وبينما كنت في طابور وقود السيارات كانت سيارة فاخرة تقف أمام سيارتي المهترئة ترجل منها رجل في منتصف العمر وأشار بيده نحوي لعامل المحطة.. وعندما حان دور تعبئة سيارتي قال لي عامل المحطة: بنزينتك خالصة يا حويج!! ولما سألته قال: من العميد فلان الذي سبقك.. صاحب المفخرة..
أسررتها في نفسي وتوجهت نحو بيتي والألم يعتصرني فقد كان العميد فلان أحد تلاميذي الأشقياء غير البارزين.