في بلد لا يمتلك بنية تحتية فنية ويفتقر إلى الزخم الفني المتوقع والذي نراه في العديد من الدول يمكن للفنان المحلي بشيء من الصبر والمثابرة , التميز وتحقيق الفرادة محليا ومن ثم عربيا ودوليا لغياب المنافسة وضعف الحراك التشكيلي , وفي هكذا مناخ راكد يمكن للمجتهد إثبات ذاته وتبوأ مكانة هامة في المشهد العام ، عن المشهد التشكيلي المحلي أتحدث حيث النشاط التشكيلي مجمد وشبه متوقف ولولا فسحة الفيس بوك التي تطالعنا بين الحين والآخر بأعمال فنية رائعة يقوم أصحابها بنشرها لتم وضع آخر مسمار في نعشه , حيثُ لا معارض ولا ورش ولا أية مظاهر توحي بوجود حركة تشكيلية يعول عليها ، ولعلنا نلتمس للفنان بعض العذر في قلة نشاطه ونعيد ذلك إلى الظروف القاسية التي تمر بها البلاد السنوات الأخيرة , سوى أننا لن نلتمس العذر لمؤسسات الدولة المعنية والموكل إليها مهمة رعاية الثقافة بشكل عام ومن ضمنها النشاط التشكيلي ونعتبرها مقصرة في واجباتها تجاه المثقف والفنان، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن اغلب موظفي وزارات وهيئات الثقافة ببلادنا لا علاقة لهم بالثقافة وإنتاجها أو حتى تعاطيها ومتابعة تجلياتها وهذا شيء يدعوا للأسف او حتى للرثاء ويؤثر بشكل كبير في آليات الحراك الثقافي ففاقد الشيء كما هو معلوما لا يعطيه .
في ظل عدم وجود منافسة شديدة وتدافع يمكن للفنان المحلي أن يكون متميزا في محيطه كما أسلفنا وحتى مشهورا فقط بالأعتماد على موهبته وعزيمته وشغفه بما يفعل وبالأتكاء فقط على توقه وإرادته .
فعل ذلك العديد من الفنانين أمثال الفنان علي الزويك بمائياته التي على هشاشة خامتها ,تظل قادرة على خلخلة اليقينيات ورجّ الثوابت بهدف تفعيلها وإنعاشها وفق سياقات زمنية ومكانية ومفهومية متبدلة ، بما تحتويه من تأويلات صادمة وموضوعات فلسفية وإنسانية مُلحة ، ولا بد أن إقامة الفنان في الخارج لفترة لعبت دورا في أنضاج رؤيته للفن وأسهمت في صقل مداركه .
وفنان الكاريكاتير محمد الزواوي برسوماته الساخرة والراصدة لمفارقات الواقع المحلي والعربي والعالمي بمهارة قل نظيرها ليس على المستوى المحلي أو الأقليمي فحسب بل على المستوى العالمي وبأسلوب غير متكرر ولا مقتبس، فلوحات الزواوي «ولا نقول رسوماته » ينبغي معاملتها كما تُعامل اللوحة ، تلك التي تخترق الأزمنة وتسافر في التاريخ لأنطواءها على أسباب البقاء إلى ما شاء الله لها , ولا ينبغي النظر إليها كرسم كاريكاتيري يعالج قضايا ومسائل عابرة سرعان ما يطويها الزمن وتكر عليها الأيام ، أو كرسم مرتبط بمظاهر ومناسبات طارئة وغير راسخة ، ولوحات الزواوي لا تعكس إلا شخصه شكلا ومضمونا ولا تشبه إلا واضعها .
والفنان علي الوكواك بمنحوتاته أو تكويناته التي تناهض الحروب وتنتصر لأوجاع الإنسان وتحاول التحسيس بها والتعبير عنها فنياً وفق رؤية فلسفية فكرية بصرية تعبيرية ذات نسق جمالي عالي المستوى , مستثمراُ في ذلك خامات مختلفة عما اعتاد على استثماره النحاتين الآخرين , كالحديد والخردة وعلب الصاج الصدئة ولحاء النخيل وأسلاك النحاس ومخلفات الحروب ليعيد تدويرها وليمنحها حياة أخرى تختلف تماما عن حياتها السابقة هذا بالإضافة إلى الخشب بطبيعة الحال .
ومن الأجيال الطالعة , الفنانة حميد صقر التي يبدو أنها اجتازت مرحلة الأنطباعية متأثرة ربما بأسلوب أستاذها العراقي الراحل نافع الخطيب لتدخل السنوات الأخيرة وبثقة مرحلة تعبيرية من أهم ملامحها , التقشف في التكوين واستثمار بياض اللوحة لتوسيع مساحة الدلالات، فقط بالأعتماد – في الأغلب – على لوني الابيض والأسود وبتوقيعات سريعة وقاطعة وحادة وحاسمة لا مجال معها للتردد ولا للمراجعة حيث اللمسة الأولى هي النهائية والحاملة للدفقة التعبيرية ، والتي تدفع باتجاه الرؤية المتكاملة والمعنى الجامع .
وعلى ذكر الفنان الراحل نافع الخطيب لا بد من الأعتراف بأنه ترك بصمة واضحة وراسخة في مدونة التشكيل الليبي المعاصر، على الأقل من خلال تأثر العديد من الطلبة الذين قام بتدريسهم بأسلوبه الذي عُرِفَ به، والبعض منهم لا زالت حتى اليوم تظهر تأثيراته في لوحاتهم بدرجات متفاوتة في حين تخلص البعض الآخر من تأثره كليا واتخذ لنفسه أسلوبا ومغايراً .وفي الوقت الذي انضوى فيه فنانون كثر في هذا القطر تحت لواء الكلاسيكية أنبرى اغلبهم لإنتاج لوحات تزيينية سياحية تهتم فقط بالجمالي وتهمل المعنى العميق والمفهوم الواعي برسمهم للبيئة التقليدية المحلية والموروث البصري الماضوي، أتجه البعض الآخر «وهم قلة على كل حال» إلى رسم الحاضر والمعاصر بكل تلويناته وبكل تناقضاته ومفارقاته وأوجاعه بأساليب غير تقليدية , ذلك أن َ الموضوعات غير التقليدية تتطلب أو تفرض نسقاً أسلوبياً غير تقليدي وتقترح معالجات مختلفة بالضرورة، وهذا الأنزياح في تصوري حتمية فنية إذ لا يمكن ولا يُعقل أن يكرر الفنان ذاته إلى ما لا نهاية ولا بد من مسارب أخرى تفضي إلى الأختلاف والخروج من حالة الجمود والمراوحة في عين المكان .
لنخلص إلى القول بأن هذا الترف والدلال اللذين يتمتع بهما الفنان المحلي ليتميز وينال الشهرة والتقدير لا يتوفران لفنانين آخرين في دول أخرى عربية وعالمية «لا سيما في الغرب» يعيشون أجواء تنافسية شديدة حيث الفن جرعة بصرية يومية وحيث الفن يمكن أن نعثر عليه في الشوارع والساحات ومحطات القطارات وعلى جانبي الحافلات ولا يقتصر وجوده في صالات العرض المغلقة والجاليريهات ذات الإيحاء الأرستقراطي , حيث على الفنان أن يتخطى ويتجاوز تجارب سابقة ومجايلة له ليصل إلى التميز , بعكس ما نرى عليه مشهدنا التشكيلي حيث الساحة شبه خالية والمنافسة تكاد تكون معدومة أو بالأحرى ألطريق أمام الفنان المحلي للتميز والأنتشار معبدة ومفتوحة وما عليه سوى أن يخوض المغامرة .
هذا على سبيل المثال وهنالك العديد من التجارب الفنية المحلية التي تنطبق عليها شروط التميز والتفوق في تصوري وتتحرك خارج سياقات المعتاد والمٌتداول وتحتاج فقط إلى تأطير واهتمام من قبل مسئولي الثقافة ببلادنا حتى تحلق في فضاءات العالمية.