رتوش

قرقابة الزيت في مدينة مصراتة

فرج غيث

زراعة شجرة الزيتون، أو كما تُسمى في ليبيا الشجرة المباركة تُعد من أهم الزراعات في ليبيا، فالأرض الليبية تتميز بموروث جيني غني جدًا للزيتون إضافة إلى الجودة العالية التي تتميز بها أغلب أصناف الزيتون في ليبيا، بل هناك صنفٌ نادرٌ من شجرة الزيتون لا يوجد إلا في ليبيا.

إضافة للموقع  الحضاري والتاريخي لليبيا؛ فلشجرة الزيتون دورٌ مهمٌ في الحياة الاجتماعية للمجتمع الليبي، باعتبار بلادنا من بين أهم الدول المنتجة لزيت الزيتون في العالم، وهو ما جعل الكنعانيين وهم أقدم من جلب هذه الشجرة إلى ليبيا ونشروها في المناطق الساحلية يستقرون بها.

تنقسم أنواع الزيتون إلى صنفين أساسيين هما صنف لإنتاج الزيت، والثاني لاستهلاكه كحبات والمعروف بزيتون المائدة، وعلى الرغم من ثراء التنوع الجيني في ليبيا هناك ثلاثة أصناف أخرى محلية هي الأكثر زراعة في ليبيا.

ولأهمية الموضوع وهذه الأيام موسمه، فقد أتحفنا الأستاذ يوسف الغزال بهذه المعلومات المفيدة والغنية، وليذكرنا بطرق عصر زيت الزيتون في المعاصر القديمة بمدينة مصراتة، ولزيادة المعرفة قمتُ بصياغة هذه المقالة التراثية لتعم الفائدة، استنادًا لما تفضل به الأستاذ يوسف.

عُرفتْ ليبيا سابقًا بأنها بلد الزيتون؛ حيث كانت أشجار الزيتون في العهد الروماني تعد بالملايين في الساحل الليبي، ولكن للآسف مع مرور الزمن تم تحويلها إلى خشب، وفحم بسبب ارتفاع الضريبة التي فرضتها الحكومات المتعاقبة على مُلاك أشجار الزيتون، من الدولة الرومانية إلى الفاطمية، وحتى الدولة العثمانية مرورًا بالقره مانلية، ولم تتعافَ إلا في العهد الإيطالي.

يقول المؤرخ الامريكي William James Durant مؤلف موسوعة (قصة الحضارة): وَجَدَ العربُ في القرن السابع أن في وسعهم أن ينتقلوا من طرابلس، إلى طنجة دون أن يبتعدوا عن ظلال أشجار الزيتون، وكان يقصد بمنطقة طرابلس (بلاد النخل والديس والزيتون) التي تضم مصراتة، وتاورغاء الآن، وهذا بحسب النصوص القديمة، ولم أن تتصور هذا الحقل من تاورغاء حتى طنجة.

يذكر د. عبداللطيف البرغوثي في كتابه (التاريخ الليبي القديم) من منشورات الجامعة الليبية الطبعة الأولى عام1971م، ص437 ما يأتي: (كان اقتصاد مناطق طرابلس خلال العهد الروماني يتركز بالدرجة الأولى على تصدير زيت الزيتون، وبالرغم من أن زيتَ الزيتون الليبي يعتبر ثقيلاً لأغراض الطبخ إلا إن الطلب كان في تزايد عليه للتدليك في الحمامات ولأغراض الإضاءة، ولعلنا نتصور النطاق الواسع الذي كانت عليه زراعة الزيتون في العصر الروماني عندما نتذكر مقدار الغرامة السنوية الضخمة التي فرضها (يوليوس قيصر) على مدينة لبدة الكبرى Leptis Magna والتي كانت عشرة ملايين لتر من الزيت سنوياً، وقد قدر المختصون أن تلك الكمية تعادل إنتاج ما لا يقل عن مليون شجرة زيتون.

ويأخذنا الأستاذ يوسف في رحلة موسم جني الزيتون في مدينة مصراتة بوصف رائع لمراحله، يقول: عندما تقترب من المكان الذي توجد به معصرة الزيت تسمع صوت مكتوم تحت الأرض (قِرّْ.. قِبْ.. قِرّ.. قِبّْ)، هو صوت بذور الزيتون وهى تُسحق تحت الرحى الرخامية الثقيلة ليخرج منها الزيت.

ومن المغالطات يعتقد الكثير من الناس بأن الزيت في ثمرة الزيتون، والحقيقة أن ثمرة الزيتون لا زيت فيها، الزيت فقط داخل البذرة الصلبة (النواة) التي بداخل الثمرة، ولهذا لابد من وجود رحى ثقيلة، أو ما يسميها أهلنا في مدينة مصراتة (خرزة القرقابة) لتدهس ثمرة الزيتون وتكسر البذور التي بداخلها لتخرج قطرة الزيت من كل بذرة، وقد أشتق اسم (القرقابة) من الصوت الذي تحدثه أثناء عملية عصر الزيتون وهو ما يعرف لدي أهلنا في مدينة مصراتة بــ (التقرقيب).

ويصف لنا الأستاذ يوسف نموذج (القرقابة) المعروف في مدينة مصراتة القديمة كما شاهده في قرية الصلالبة حيث يوجد أحبتنا آل الصلابي الكرام، يقول: كانت توجد ثلاث (قراقيب) لعائلة السوسي جميعها محفورة تحت الأرض، المدخل عبارة عن منحدر بطول خمس أمتار تقريباً ينتهي في صالة دائرية تحت الأرض، ووسط هذه الصالة يوجد حوض دائري بقطر مترين تقريبًا وبارتفاع متر، وسطه قرص بقطر متر من الرخام وسمكه ربع متر، ويسمى هذا القرص (الرحى) التي تدور بواسطة جمل أو حمار أجلكم الله.

وتدور (الرحى) بواسطة عمود خشب مثبت على ظهر (الجمل) المدرب على العمل، يسمى (جمل القرقابة)، وتتحول ثمار الزيتون تحت (الرحى) إلى عجين رطب، وعندما يطيب العجين يأمر (رايس القرقابة) بوقف (الرحى) وجمع العجين في (الشوامي) وهي جيوب مصنوعة من ليف النخيل أو نبات الحلفاة، أو أواني تشبه (القفاف) التي نستعملها اليوم.

يقوم العامل برص (الشوامي) المليئة بالعجين فوق بعضها تحت المعصار لعصر الزيت، والمعصار عبارة عن جذع نخلة يرفع بحبال غليظة وبكرات بطريقة سهلة حسب قانون الروافع من (النوع الثاني) ذراع القوة أطول من ذراع المقاومة.

نحن اليوم نتحدث عن القرقابة وهي معصرة الزيتون في مدينة مصراتة، لكن وللإضافة يوجد موقع في مدينة يفرن بجبل نفوسة يسمى (إيجيمي نْ قررقاب)، وتعني كلمة إيجيمي البستان أو الحقل، وكلمة قرقاب عامل معصرة الزيتون.

و(القرقابة) تسمى اليوم (معصرة) والحقيقة أن (القرقابة) ليستْ معصرة فقط، بل هي مطحنة تطحن البذور حتى تصبح عجينًا، ثم يُعصر العجينُ لفصل الزيت عن بقية الشوائب المعروفة باسم (القرقور)، أو(الفاتورة).

(القرقابة) .. مكان محفور تحت طبقة صخرية كبيرة تشكل سقفًا طبيعيًا للمغارة، وتتكون هذه المغارة من (غرفة الرحى) ثم (غرفة المعصرة)، ثم (غرفة التصفية)، وغرفة تخزين (شوامي) الزيت، كانت (القراقيب) تعمل أثناء الموسم بنظام ثلاث ورديات طوال الليل والنهار، وكانت (القرقابة) المكان الوحيد الدافئ في ليالي الشتاء، حيث كان يجتمع فيها شباب القرية للعمل والسهر طوال الليل، ويستمتعون باحتساء (الشاهي بالكاكاوية) وتناول خبزة التنور، والزميتة بالزيت من ميزاب (القرقابة)، ولابأس من لعب (أم السبعة)، وتبقى وردية الليل حتى الصباح.

وكانت مدينة مصراتة القديمة تتحول في فصل الشتاء إلى مهرجان للزيت، حيث توجد في كل قرية معصرة تقريباً، ويشارك كل السكان في العمل أثناء موسم الزيتون بداية من جني الثمرة من على الشجرة، إلى رحيها، وهرسها حتى تصبح عجينة، ثم تعصر العجينة لاستخلاص الزيت، ثم يصفى ويضرب بالماء لإنتاج زيت (الدرجة الاولى) وذلك بإزالة المرارة والملوحة الزائدة، وبعد الخلط والرَجّْ ينفصل الماء عن الزيت تلقائيًا، وقد أخذ الماء معه الملوحة والمرارة وكل الشوائب، لنحصل على زيت بكر مغسول بالماء يسمى (ضرب ماء) ثم يسكب في أوعية من جلد مسلوخ من الماعز تسمى (سليخ الزيت) وتعرض في مدينة مصراتة بسوق خاص يسمى (رحبة الزيت)، أو يباع لتجار وافدين من خارج مدينة مصراتة.

وتشاهد في موسم الزيت قوافل الجمال ومجموعات من الحمير أجلكم الله، لا ينقطع لها ظل من مدينة مصراتة، ومدينة مسلاتة وهي متجهة إلى ميناء مدينة طرابلس. 

ويضيف الأستاذ يوسف: لقد حفظتُ من والدي هذا (النظم) وهو يصف عمل أهل مدينة مصراتة في مواسم العام الأربعة فيقول:

في الشتاء قرقابة وحب.

في الربيع حشيش وعرب.

في الصيف بشنة وقصب

في الخريف نخلة ورطب.

كانت ليبيا قديما تعتمد في دخلها على إنتاج زيت الزيتون لإضاءة دول اوروبا، أما ليبيا اليوم فقد استبدلت زيت الزيتون Olive oil بزيت النفط Petroleum oil لإضاءة دول اوروبا من جديد، ومنذ ذاك اليوم الذي دخل فيه النفط في الحياة اليومية، اصبح نقمة بدلا من أن يكون نعمة، كما كانت الشجرة المباركة، ولا يخفى على احد كيف جعل بلادنا تمر بظروف سياسية سيئة نتيجة التكالب على السلطة، لا لشيء، إلا للاستفراد بثروات البلاد ومن ثم سرقتها وتحويلها إلى جيوبهم، لهذا كان المشهد قاتم وسيء جدا نتيجة وصول من نشاهدهم اليوم الى مناصب الدولة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى