بعد مرور كل هذا الزمن ، نعلم اليوم أنّ اقتحام سجن الباستيل عام 1789 لم يُلبِّ – على الفور – احتياج الشعب لبناء دولة مدنية يحكمها القانون ويسودها العدل ، وإنما وقع المقتحمون يومها في شرك العنف ، ليعيشوا داخل نظام الباستيل من أجل ملاحقة رموز الظلم وإعادة الحياة وفق شروط السلطة البديلة.
إنَّ توقُّفَ الزمن عند لحظة بعينها؛ يحجب عنا رؤية المستقبل ويسقط طموحنا لتحقيق بدائل أفضل لبناء دولة تنطلق من العمل المؤسساتي واحترام حقوق الحريات في المجتمع ، فسجان الباستيل انتظر لسنوات طويلة، ليكتشف أنه لم يعد سجيناً لأدوات القمع، وصار بإمكانه أن يتجاوز مشاهد الاقتحام بوصفها تاريخاً حقيقياً للنصر من أجل القيام بعمل مغاير .
بالمقابل لم تنتظر جنوب أفريقيا ابن الهوسا كثيراً ليُلقي بغبار عقوده الثلاثة داخل سجون القمع خلفه، وينطلق نحو مصالحة اجتماعية واسعة النطاق، امتدت إلى إلغاء الفصل العنصري وإقامة انتخابات متعددة الأعراق ؛ الأمر الذي ساهم في نهضة الدولة سريعاً، لتفرض احترامها على القوى الاقتصادية والهيئات الدولية .
ربما تعلّم السجين الأفريقي الدرس جيداً ورفض أن يكون سجيناً للحظة انتصاره، رغم أن سيرته النضالية حينها انتشرت على أوسع نطاق ، لكن مانديلا رفض أن يخرج من السجن ليكون سجاناً ، و انطلق إلى فضاءات العمل ليحقق أحلام المستقبل ويتجاوز حاضر النشوة بما تحمله من رغبة في الانتقام والعزل والقهر .
في هذا الإطار سيكون من المحزن الارتباط بتاريخ التغير السياسي وتقديسه بوصفه «انتصاراً » ، دون العمل على تعميق فكرة التغيير نفسها على كافة المستويات، سيكون من المحزن استقبال هذا اليوم من كل عام دون أن تتحقق مصالحة اجتماعية شاملة أو أن تتأسس قوانين حقيقية، تنظم عمل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، من المحزن العجز عن بناء قاعدة حقيقية من أجل تداول حقيقي للسلطة السياسية أو تحقيق خطوة إيجابية من أجل التنمية، من المحزن تجاهل قيمة الفنون ووضعها خارج اهتمام السلطة التنفيذية والاحتفاظ فقط بتاريخ عمل المسرح أو ذكرى عرض آخر شريط سينمائي أو مهرجان ثقافي . نعم سيكون من العبث أن نظل سجناء لحظات ومشاهد وصور محددة، دون تقديم رؤية مغايرة تبرر قيمة وعظمة تلك اللحظات