كتاب حصون على الرمال.. تريبوليتانيا الليبية 1934( للرحالة البولندي «برونيسواف كريستين فيجايسكي»، الذى قام بترجمته «ميخائيل عبدالله»، والصادر عن منشورات «دار الجمل» يحملك إلى أكثر من تسعين عامًا من التاريخ الليبي عبر مشاهدات الرحالة البولندى «برونسيوف» الذى يصف رحلته إلى المدن الليبية خلال ثلاثينيات القرن الماضي.
«برونيسواف كريستين فيجايسكي» هو طالب بولندي في العشرينيات من عمره كان يدرس بإحدى جامعات روما وشجعته دعوة صديقه الإيطالي لزيارة المستعمرة الإيطالية الليبية والتمتع بجمال الصحراء الأفريقية ، ونجح الشاب حين وصل ليبيا بشهر يناير من عام 1934 ،فى الحصول على رخصة من قيادة الجيش الإيطالى في المستعمرة، تخوله حقّ استعمال المواصلات العسكرية مجاناً، مع المبيت مجاناً في كل مراكز الحصون العسكرية والإعفاء من تكاليف التغذية في المطاعم العسكرية وثمن المواد الغذائية من المخازن العسكرية.
بالبو في مدينة طرابلس
يبدأ المؤلف الشاب برونسيوف مشاهداته بوصف مجيء حاكم ليبيا الجديد الإيطالي بالبو واستقبال الناس له في مدينة طرابلس بقوله :
بحر من الرؤوس البشرية وفوقها علقت بكثافة لافتات زرقاء ممتدة على عرض الشارع كتبت عليها بخط عريض واضح كلمة واحدة “بالبو” وليس هناك عبارة أخرى سواها بعد لحظة يندفع إلى الأمام، رتل من السيارات في السيارة الأولى بالبو مع مطران طرابلس، وفى السيارة الثانية ركبت زوجة بالبو برفقة الجنرال سيسلانى وهو قائد القوات المسلحة فى ليبيا ،يبتسم بالبو يحى الجمهور ويرد التحية محولا نظره من جهة إلى أخرى عند عبوره على أرتال بليلى و“بيككولو إيتاليانو” يقف فى مكانه ويرفع القبعة ،من على رأسه ،تصفيق شديد وهتافات حماسية ،حارة ،باقات من الورود يلقيها الأطفال على السيارةص45
ويتجول الشاب البولندى داخل مدينة طرابلس ،ويصف ببراعة تفاصيل المدينة القديمة بطرابلس ونوعية الناس ،الذين يسكنونها من ليبين بسطاء ويهود وأتراك وإيطاليين وطبيعة عملهم بحرف يدوية ،فى دكاكاينهم البسيطة ويصف سوق الترك الذى كما يقول يخيم عليه الصخب والضوضاء ، بدكاكاينه المكتظة بكل مايريده المشترى من مصنوعات جلدية ،ونحاسية وفضية وطرابيش وأقمشة وتوابل وعطور وجلد أفاعي ،وغيرها من دكاكين الحرفيين ودكاكين القصة
يستغرب برونيسواف من طريقة ذبح الخراف والعجول، ويصفها بالقذارة والوساخة وينتقد كما يسميها رائحة الشرق التي، لطالما تغزل بها الشعراء ولكنه سرعان ما يتراجع عن رأيه بقوله بأن للشرق جاذبية ،رغم كل شيء وعليه ان يستكشف أسراره وهذا سبب مجيئه وزيارته لليبيا ،فهو نهم للمعرفة وإلى استكشاف ليبيا التي تسطع تحت شمس أفريقيا الحارقة ،وتقوده رحلته لاستكشاف أسواقها وشوارعها القديمة ومساجدها ،فيدخل إلى مسجد قرجى ويصف ببراعة زواياه ومنارته التي يخرج منها صوت المؤذن، ثم يقصد الشوارع والمقاهي الأوربية التي بناها وشيدها الإيطاليين، وينطلق إلى سوق الجمعة وهى قرية تبعد عن طرابلس بخمسة عشرة كيلومترا، ويعرض فيها كل يوم جمعة من الأسبوع مختلف السلع الشرقية التي يتوارد، عليها حشد من الليبيين واليهود والزنوج على أقدامهم أو على ظهور الحمير ،وعبر زحام السوق يصف تقسيمات السوق المتنوعة بين بيع الجمال وقطعان الماعز، ومختلف السلع الغذائية عبر أجنحة مختلفة ويلفت نظره وجود، خياطات يهوديات يقمن بقص وخياطة ألبسة داخلية بسيطة ويهوديات، أخريات يقمن ببيع مسبحات وعطور ومرايا.
ينتقل بعد ذلك إلى قرية العمروس، وهى كما يقول قرية يهودية منقولة حرفيا من العهود البعيدة، التي تتحدث عنها كتب التوراة والتي يصفها بانها “عبارة عن أزقة صغيرة تفصل المساكن المنخفضة الشبيهة بالسور المغلق الأعمق لولا بعض الفتحات النادرة التي تستخدم كأبواب للدخول ويعمها الفقر المدقع والروائح الكريهة والأوساخ.
ويمضي الشاب البولندي في رحلته ،ميمما صوب تاجوراء التى يصفها بأنها واحة غنية تعطى المياه الجوفية الحياة لآلاف مؤلفة من أشجار النخيل الضخمة ويقيم البدو فيها خيامهم بين الأشجار
وبداخل قرية تاجوراء قام الايطاليون ببناء مدرسة علقت في وسط قاعتها صوة الملك ولموسولينى بكتابة ضخمة “حياتكم لايطاليا،الإخلاص للملك ،القلب للقائد“
ويذكر الكاتب بـأن الدراسة تستمر بالمدرسة لمدة أربع سنوات ،يداوم بها الطلاب يوميا والصفوف خليط من الطليان والليبيين، “السكان الأصليين وأولاد العائلات الفقيرة يدرسون مجانا ويحصلون على وجبة غذاء بالمدرسة.
سكان الكهوف في غريان وقرية تيغرنة
يزور الرحالة البولندي” برونيسواف كريستين فيجايسكي ” مدينة غريان التي تبعد100كيلو عن طرابلس ويدفع ليرتين، لأحد الرجال الليبيين كي يدخل مع صديقه الإيطالي مارسيلو إلى الكهوف المحفورة ،بجبل غريان التي يقطنها أهل المدينة ويصف الكهف وطريقة العيش فيه، الصعبة والقاسية ويظهر استغرابه من قدرة أهل المنطقة على العيش فيها،رفقة زوجاتهم واولادهم وحتى جمالهم لطبيعة الصعود إليه الصعبة والوعرة.
ويجد الرحالة البولندي مع صديقه الإيطالي، فجاة نفسه مع “سكان الكهوف” من اليهود ويشاهدون الورش البدائية ،للغزل والنسيج التي تقوم بها النساء اليهوديات اللواتي لا يخجلن كالعربيات ،ويهربن منهم بل يقبلن عليهم للحديث معهم لبيع سجاداتهن ،ثم يزوران معبد يهودي تحت الأرض يعود تاريخه إلى 400 عام يوجد بخزانته بعض الكتب اليهودية، المقدسة ويقدم لهم الرابين كتاب التوراة لمعاينته ثم يحملهم إلى قاعة دروس المعبد الذي يقرأ ويدرس فيه الأطفال التوراة ويصف الكاتب الرابين المشرف على تدريس الأطفال بجسمه المعقوف وذقنه الأبيض وعمامته الخضراء
فى فصل من الكتاب يدور حديث، بين ضباط ايطاليين والرحالة البولندي عن اليهود ويبدى أحد الضباط تذمره، من تمكنهم السيطرة على البنوك والاقتصاد في أوروبا وعن العجز عن محاربة مجموعات رؤوس الأموال اليهودية..وهذا الجزء من رحلة الرحالة البولندي يعطى صورة واضحة عن
تعايش اليهود في المجتمع الليبى بأمان وسلام دون تعرضهم للمضايقات أو التنكيل قبل احتلالهم لفلسطين.
يمضي الكاتب فى وصف ترحاله، وتجوله في مدن الغرب الليبي عبر قيادة دراجته بين المزارع والحقول، ويبدو الكاتب منبهر بما يقوم به المستعمر الإيطالي، من زراعة الحقول حول المدينة على مد النظر وبناء المدارس ،والمؤسسات الحكومية ومن خلال ثناؤه على ما يفعله الاحتلال الإيطالي يظهر جليا ،أن الكاتب الزائر لليبيا لا يجد غضاضة في الاستعمار ويرى فيه بارقة ،للنهوض بالبلاد المتلهفة لبلاد متحضرة معبرا بذلك عن النظرة الاستشراقية، المعتادة للإنسان الغربي تجاه العرب فهو يشيد بالمستعمرات والمستوطنات، التي بناها المحتل الإيطالي والتي تمنحها الحكومة لمن يريد تعمير قطعة أرض فى ليبيا ،فيقوم بزراعتها والاعتناء بها بعد إبرام عقد مع الحكومة الإيطالية التى تساعده، في بناء البيت وتحفر له بئر وتقوم بتوصيل البيت بالطريق ويقوم صاحب الامتياز، بدفع نصف التكاليف للحكومة أما النصف الثاني فيتعهد بتسديده بعد عشرة سنوات، وبعد المدة المحددة تقوم لجنة من الحكومة بفحص المستعمرة مع موازنة ،لما تنجته وإذا تبين إن المتعاقد نفذ شروط الاتفاقية حينها يعطى الحق بدفع النص المتبقي من التكاليف وبهذا تصبح المستعمرة بكاملها ملكه، فالحكومة الإيطالية كانت تقدم كل التسهيلات للإيطاليين للاستيطان في ليبيا لاعتقادهم بأنهم سيبقون فيها إلى الأبد ولكن هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية حطمت كل التخطيطات والأحلام الاستعمارية لإيطاليا
رحلته إلى الجفرة
ينتقل الرحالة من أقليم طرابلس إلى الجفرة ،ومدن الواحات هون وسوكنه وودان ويقدم إحصائيات مهمة عن أعداد السكان في كل مدينة وطبيعة عملهم ،ويتحدث عن المقاومة التي قادها سيف النصر والى فزان ضد الاستعمار الإيطالي التي قمعها الجيش الإيطالي بقيادة العقيد ناتالى، والذى حكم على سيف النصر بالموت فلجأ إلى مصر لحمايته من الاحتلال الإيطالى ويشيد الكاتب بازدهار هون والجفرة إلى الحاكم الإيطالي ناتالى الذى عمل على تنظيفها وأنشأ طرق معبدة، وبناء أقواس وحصن ومدرسة ومستوصف وورشات ميكانيكية .
يتسلسل الرحالة ببراعة ،فى ذكر تنقلاته وسفره بين المدن بأسلوب سردى جميل به كثير من البراعة السردية الأدبية، من حيث التصوير البلاغي والتشبيه والوصف الأدبى الجميل للمدن والناس وعاداتهم الاجتماعية فى الأكل واللباس وحفلات الزواج وطريقة عيش حياتهم ، فالكتاب رحلة سردية ممتعة ضمن كتب أدب الرحلات بجمالياته الأسلوبية في وصف المدن والناس والبحر الذى يبوح له الرحالة بحبه وعشقه فيقول:
” أنا افضل البحر ولا ارضى عنه بديلا ،فالبحر فى تغير أبدى هو خلاب دوما وفاتن يعطى الإنسان راحة بدنية كاملة كالبلسم العجيب الذى يكوى جراح الروح وآلام النفس وحسرات القلب وهذا الانتظار ثم الانتظار لمفاجأة ما فى الأفق البعيد حيث تتداخل المياه بالسماء اللامتناهية مشكلة قطعة واحدة بدون أبعاد ..ياله من شعور كامل بالحرية الحقيقية ص257
وفى مقطع أخر من الكتاب يصف محبته وحزنه لوداع مدينة براك الشاطئ الصحراوية في الجنوب الليبي بقوله “هى مرة فكرة مغادرتك يابراك ،أنت التي فتحت لى ذراعيك الكريمتين وآويتني بين ظهرانك يا لؤلؤة وضاءة لامعة في واحات مقاطعة فزان قاطبة“
ويذكر الرحالة الشاب بأن هناك مرسوم تشريعي صدر بتاريخ 3/12/1934 يقضى بضم تريبوليتانيا وسيرينايكا بمستعمرة واحدة تحت قيادة والى عام مقره الثابت طرابلس وتحمل المستعمرة “اسم ليبيا“.
في نهاية الكتاب يورد” برونيسواف “معلومات إحصائية، مهمة وبالأرقام عن أقليم طرابلس تشمل معالم الطبيعة والتعليم، حيث رصد بالأسماء والأعداد مختلف المدارس بمدن أقليم طرابلس وأسماء الصحف و النوادي والتجار والثروة النباتية والحيوانية وتعداد السكان بالمدن، وتوزيعهم وأصولهم ويعتبر الجزء الأخير من الكتاب مصدر وثائقي مهم للباحتين والدارسين لتلك المرجلة من عمر ليبيا .
ويتحدث المترجم ميخائيل عبدالله عن مصير مؤلف الكتاب وعن سبب عدم وجود أى ذكر له في بولندا بعد صدور كتابه فى عام،1935م حيث اكتشف بعد البحث والتقصي بأنه توفى مقتولا على يد القوات الروسية وذلك بعد أن راسل المترجم عدة جهات ثقافية ببولندا للتقصي عنه ،فوصلته رسالة من هيئة حماية ذكرى المعارك بأن المذكور، وجد اسمه ضمن تسعة عشرة ألف ضابط من ضباط الجيش البولندى، الذى تم قتلهم وأبادتهم جميعا على يد القوات الروسية، برصاصة فى الرأس فى منطقة تدعى كاتين تقع فى أقصى غرب روسيا فى سنة 1940 م وتم العثور على جثته عند النبش فى المقبرة الجماعية بغابة كاتين سنة1943م ، وبذلك انتهت حياة الشاب البولندى برونيسواف بطريقة مأساوية وهو فى سن الثلاثين من عمره، تاركا خلفه كتاب رحلات قيم كان شاهد على حقبة مهمة في تاريخ ليبيا.