كانتْ هذه العربةُ الجميلة ترمز لجزء مهم من موروث سكان مدنية بنغازي الاجتماعي والاقتصادي، بخصوصية فريدة ومميزة في زمن النقاء، فهي وسيلة مهمة من وسائل المواصلات العامّة، يجرها حصانٌ وتُستخدم لنقل الأشخاص من مكان لآخر، وأيضًا كانت تستخدم في الأفراح، والأعراس الليبية لنقل العروسة ليلة الزفة إلى بيت زوجها.
ولازالت تستخدم في الكثير من الدول حول العالم كوسيلة جذب سياحي، خاصة في مدينة مراكش المغربية، التي لا تزال تستخدم فيها هذه العربات على نطاق واسع كوسيلة للنقل، وهو تقليدٌ استمر لمدة قرنين من الزمن، وأيضًا في المدن الإيطالية والإسبانية، ومناطق جنوب غرب تركيا، كما لا يزال بروتوكول قصر Buckingham في المملكة المتحدة )بريطانيا( يعتمد عليها، حيث يستقلها أفرادُ العائلة المالكة أثناء تنقلهم، كنوعٍ من البروتوكول الملكي، خاصة أثناء استقبالهم لضيوف القصر، ونشاهدها هذه الايام لدى الملك Charles III الثالث، ولا يزال الكثير من البريطانيين متمسكين بـ)الكروسة والكاليص(، بعد تطويرها وتزيينها، فعند رؤية هذه العربات تتحرك بسلام في الشوارع، فإن الرغبة في القيام برحلة ممتعة على متن إحداها لا تقاوم.
وهنا في بنغازي نوعان من هذه العربات، )الكاليص( وهي عربة بعجلتين فقط يجرها حصان، و)الكروسة( عربة بأربع عجلات يجرها حصانٌ، وتسمى لدى البعض بالعربيات، ومفردها العربية، وتسمى باللهجة الدرناوية )الحنطور(، وكذلك الحال في اللهجة المصرية، وتقال بالتاء أيْضًا أيّ )الحنتور(، وللـ)الكروسة، والكاليص( مظلّة من أعلى، ويكون للسائق مكانٌ مرتفع فِي مقدمة )الكروسة( أمّا الركاب فمكانهم فِي الخلف حيث توجد أريكة، وكرسي صغير يقابل الأريكة، لكن سعة )الكاليص( أقل من
)الكروسة(.
مدينة بنغازي كغيرها من الحواضر في العالم مدينة متنوعة المشارب، والثقـافات، سكنتها عشرات الأعراق والأثنيات عبر عصورها، دخلت عربة الكروسة Carrozza، وكذلك الكاليص Calesse المدينة أثناء العهد العثماني الثاني، وصنّفتْ ضمن التقاليد الاجتماعية الأصيلة، وقد ذكرها الرحالة الألماني البارون Heinrich Von Maltzan، وكذلك دوّن عددٌ من الرحالة ملاحظاتهم بهذا الخصوص، من بينهم الطبيب الألماني Gustav Nachtigal والمؤرخ الفرنسي Henri de Mathuisieulx، وتصف Mabel Todd وسيلة المواصلات الرسمية، أو )الكروسة والكاليص( عام 1901م وتقول بإنها على طريق عربات Adrianopoli وتصف شكلها على النحو التالي:
العربة ذات عجلات مختلفة الحجم، مصممة بمظلات مشرقة مطلية باللون الأزرق، مزينة بـ Fancy Designs تصاميم فاخرة، بالإضافة إلى ستائر حمراء ضد الشمس الحارقة كي لا تسبب حساسية أو عمى للعيون، ونادراً ما يتم تعويض الإزعاج على الطرق غير المعبدة، بسلسلة من أجراس Merrily jingling bells مجلجلة ومرحة حول عنق الحصان، وفي وقت لاحق تم حظر استخدام هذه الوسائل من قبل الباشا الذي أصر على استعمال الفيكتوريات الجميلة Fine Victorias العربة ذات الأربع عجلات المجرورة بواسطة حصانين.
تناولتها صديقتنا الشاعرة الأنيقة الأستاذة بدرية إبراهيم الأشهب الكوافي في كتابها)مُعجم المُفردات البنغازية(، الصّادر عن )دار الكُتُب الوطنيّة( عام 2009م، متحدثة عن دورها في الحياة اليومية لسكان مدينة بنغازي الباسلة.
كما تحدث عنها ذاكرة بنغازي «سي عمران الجلالي» في كتابه )قاموس بنغازي(، حيث ذكر بأن عدد العربات في مدينة بنغازي كان قرابة سبعين عربة ما بين «الكروسة، والكاليص»، من بينها سبع عربات أصحابها أيطاليون، و«كاليص» لأحد المالطيين، وكان للـ«كاليص» دورٌ كبيرٌ في الحياة اليومية لسكان مدينة بنغازي، فقد جرت العادة بأن تستقل العروسة يوم زفافها )الكاليص( الذي تتوجه به إلى بيت زوجها، – بيتها الجديد -، ففي ثالث أيام العرس الليبي يتم تجهيز العروسة للانتقال إلى دارها الجديدة، فبعد أن تقوم المزينة بتزيين العروسة وتمشيطها وتعطيرها بالروائح، وبعد غروب الشمس تأتي عددٌ من )الكاليصات( التي كان قد استأجرها أهل العريس لتنقل العروسة، ومرافقاتها إلى بيت العريس، ويكون محظوظًا مَنْ يكون «كاليصه» «كاليص» العروسة، لأن أجرته تكون مضاعفة مقارنةً مع بقية أصحاب «الكاليصات» الأخرى.
إنَّ النَّوع الذي كان موجودًا للاستخدام العام في ذلك الوقت، هو النَّوع المستعمل على شكل Fiakers خفيف بمقاعد متدلية.
كانت لهذه الوسيلة المتميزة عدة محطات رئيسة في المدينة، تنقل الركاب والزبائن والمشترين من مكان لآخر، وإلى مختلف المناطق القريبة، اهمها المحطات الرئيسة بوسط المدينة، وهي كالتالي: محطة ميدان الشجرة قبل عمارة بن هلوم على اليمين، محطة أمام مستشفى بغداد قبل تشييد مدرسة «الحرية»، محطة مستشفى بردوشم «7 اكتوبر»، محطة ميدان البلدية أمام الجامع العتيق، محطة مستشفى الجمهورية أمام الباب الرئيس المقابل لمحطة الحافلات الداخلية بالمدينة، وكانت أيضًا هناك محطة أمام قلعة «التوريلي».