قصة
ما ان توشك المدرسة على ان تقفل أبوابها ويقترب الصيف حتى تنبت لنا أجنحة مثل النمل الفارسي في أوائل الخريف، نمضي لأمكنة قصية و نجوب فضاءات أخرى، نختزل الزمن و الجغرفية، ها أنا ذا اخيرا ! وفي اسبوع المدرسة الاخير ، جمعت مايكفي ، ثلاث خمسات وعشرتين هي ثمن الكرة التي نسميها كرة خمسة وثلاثين .
وهي حقيقة كرة لاتصلح لشيء لخفتها وسهولة ثقبها لكن حيلة تفتقت حتما عن ذهن شيطان حولتها الى كرة تحفظها ذاكرة الاجيال . اذ كان يمكن وضعها في أحشاء كرة الجلد لتصبح كرة هجينة تشبه كثيرا كرات المحترفين التي يصعب على امثالي جمع ثمنها .
اذا امتلكت الكرة تضع القانون، وتمن على من تشاء ان يشترك في النزال . بإمكانك ايضا ان توقف المباراة ساعة تشاء وتنسحب ، أنت ببساطة تصبح سيد الملعب.
كان الحصول على غلاف الجلد منة سماوية تشبه المعجزة لا تتأتى بسهولة لكن خالي عريف الجيش الذي يغيب طويلا في الشرق ولايحضر عادة معه حين يعود شيء ذو نفع الا كيسا محشوا بالخبز اليابس للأغنام ، احضر هذه المرة كرة جلد ممزقة الأحشاء من معسكر الجيش، كانت بالنسبة لي هدية و كنزا لا يقدر بثمن .
اكتمل المبلغ وحصلت على الخمسة الثالثة وعشرتين وصار بمقدوري ان اشتري كرة يمكن حشوها في غلاف الجلد لتصبح كرة حقيقية ستجعلني سيد الملعب طوال الصيف.
سنختار موضع الملعب في بقعة من الودي اذ لا قيد على المساحة يكفي ان ننصب حجرين هنا وآخرين في الطرف المقابل. لا قيدا زمنيا ايضا ، اذ تنتهي المباراة بحلول الظلام اوبقرار من صاحب الكرة الذي قد يمسك بها في لحظة غضب وينسحب فيتفرق الجميع.
تلك الاجنحة اللعينة التي تنبتنا فجأة جعلتنا نتقمص أسماء لاعبين من اطراف الارض ننقش ارقام غلالاتهم على قمصاننا المهترئة ، ونتخلى طوال الصيف عن أسمائنا ،
“بلعيد” اصبح ” بيكنباور” بغلالة رقم 5 ،“اما ميلاد الكبش فقد واته “ماريو كمبس” ، اما انا فقد كنت محتارا بين “يوهان كرويف” 14 وغلالة “الكعبي” رقم 3 فكرت طوال الطريق وانا اعبر الوادي في ذلك المساء لاشتري كرة ولم احسم امري.
حتى انني فكرت في ان ارتدي كل يوم غلالة ولاني لااملك الا قميصا واحدا فقد تخليت عن الفكرة و اجلت االقرار .
عبرت الوادي الذي أحفظ زيتونه ومسالكه ، بل اني اعرف أي الاشجار بها اعشاش للحمام ، وتللك الهرمة التي تنسج العصافيرفي اطرافها التي لايمكن تسلقها اعشاشا كروية، تتدلى كالقلائد ، وتصمد في وجه العواصف ، أحفظ الوادي واسماء الزيتون شجرة شجرة ،
فللشجر في الوادي اسماء مثل الناس، بعضه ينتسب لأهله، وآخر للمكان، هذه مثلا زيتونة الساقية وتلك زيتونة الجرف، وهذه هناك زيتونة الكاف، وهكذا .
كنت اغمض راحتي اليمنى بقوة على الخمسات الثلاث والعشرتين ،
وما ان تركت الوادي ورائي وصعدت المنحدر والتقطت أنفاسي حتى قابلني دكان عمي “عبدالله “، كنت امر بجانبه كل يوم في طريقي للمدرسة تقابلني رائحة الفاكهة في اول الشارع، بعده على اليمين مربوعة ” سي برير” الشريف الذي يظهر فجأة مثل طائر ” النقر” المهاجر ، وقت الغلة ثم يختفي لشهور.
الى اليسار في اقصى الشارع دكان عمي “حسن” كان يومها يجلس امام الدكان ممسكا بمروحة السعف يمروح ببطء ويغالب النعاس .
يومها لم اجد كرة ال35 في دكان عمي “عبدالله “ولا عمي “حسن” ولم يبقى الا” لقراندي ” الذي كنا نتحاشاه لشحوبه الدائم وقسوة نظرته الحادة اذ لايمكن لطفل ان يقصد دكانه الا مضطرا كما هو حالي اليوم.
قبل ان اقف على باب الدكان المظلم قليلا رأيت عدد من الكرات تتأرجح في عنقود ضخم من سقف الدكان تفقدت القروش في راحتي سرعان ما ادركت ان لدي فقط قطعتين بحواف متعرجة فادركت ان الخمسات ليست ثلاثة كما ينبغي ان تكون ، ثمة خمسة ضائعة .
شعرت بسخونة في وجهي ،وبقلبي ينبض بشدة ، اعدت الحساب : عشرتين وخمستين لقد اختفت الخمسة الثالثة.
استدرت حتى قبل ان اسال عمي “لقراندي” عن ثمن الكرة ، عدت ادراجي من نفس طريقي لعلي اجد الخمسة التي انزلقت من يدي في الطريق، عبرت الشارع نحو ضفة الجبل ثم انحدرت الى الوادي والضفة الاخرى لا اثر للخمسة الثالثة في الطريق .
لو لم اضع تلك الخمسة لكانت الآن الكرة في يدي ، تلك الكرة الحمراء بالذات ذات المربعات السوداء كنت الآن سأدسها في قلب غلاف الجلد واصبح سلطان الملعب او أكاد.
لا ادري كيف نمت تلك الليلة بل كيف نجحت في كتم السر كي لا اصبح اضحوكة من اخي الاكبرالذي يستهويه تصيد كبواتي او من اختي التي لن تغفر لي اضاعة خمسة قروش ثمينة دون ان تعيد القصة الف مرة لامي وتعايرني لاشهر امام والدي.
في اليوم التالي كان بمقدوري ان اعوض الخمسة الضائعة وان لا اذهب مزاحما إثناء الاستراحة لاشتري نصف خبزة وقطعة جبن من دكان عمي “حسن عمر” المقابل للمدرسة.
في المساء اشتريت الكرة الحمراء من دكان “لقراندي” وعدت مسرعا توقفت في الضفة البحرية للوادي عند شجرة العوسج، تاملت بفضول الإناء المغطى بقطعة قماش بيضاء ، تبدو جديدة ونظيفة لاتشبه الرايات الممزقة والمتسخة العالقة في الأغصان والتي اصبحت باهتة بلا لون. ،
لابد انه لجدتي “سليمة” التي اعتادت ان تضع إناء مليئا بالماء او الزيت يبيت في قلب الشجرة ليشفي من العين والخلعة .قاومت ظمئي و لم افكر في مد يدي للإناء، لكني تساءلت فقط : لما لم يكن بمقدوري ان اترك الكرة تبيت في شجرة العوسج لتتبارك؟ كانت حتما ستسرق قبل حلول الصباح وجدت نفسي في حيرة لفهم قانون البركات هذا وكيف يعمل؟
الجمت افكاري االشريرة وخنقت توالد الأسئلة في ذهني خشية ان اجلب لعنة لكرتي الجديدة فلا أتم موسم الصيف سيدا للملعب.
عدت للبيت في خيلاء امسك بفخر كرتي الحمراء ذات المربعات السوداء ،أفرغتها من الهواء، وزرعتها في كبد كرة الجلد ، واعدت نفخها ، ثم ….. اخيرا ….. سيبدأ التتويج :
ركلة ، ركلتين، اخرى باتجاه الحائط وكفى!
كان صوت ارتطام الكرة موسيقى تنبعث من وراء السحاب ، دقات تملأ الأرجاء مثل دقات طبول الأولين تسافر وتعبر الآفاق، فيتراكض الجميع بحثا عن الصوت واستجابة للنداء اللذيذ ، ركلة اخيرة لتتأكد الوجهة ويبدأ النزال.
طوال الصيف يمتلئ الوادي بنجوم العالم، بعشرات الفرص الضائعة والاهداف، ينقضي الصيف سريعا دون ان نحس ، وكما يفقد النمل الفارسي اجنحته وتذروها الرياح ،
تتكسر اجنحتنا ايضا حين تفتح المدرسة ابوابها من جديد، تبتلعنا فصول المدرسة ، ويعود النجوم لاوطانهم البعيدة ، ونستعيد أسمائنا.