«خرابة النوادر» .. هي المطرُ التي تهطلُ في شهر «مايو» ويسمى «ميو» بالشدّة على الياء وبعد شهر أبريل الذي يقول عنه أجدادنا :
)في برير ييبس الزرع، ولو في قعر بير(، ويسمى شهر «أبريل» «الماطو» المجنون لأنه يمثل فوضى بامتياز في طقسه .
وبما أن النشاط الاقتصادي الرئيس الذي تترتب عليه مستوى، وكيفية معيشة النَّاس والبلاد هو الزراعة و«الزرع» تحديدًا، وهو زراعةُ الشعير، وهي بلا شك زراعة موسمية تعتمد على الأمطار في نجاحها، وتتميز بالطابع الاحتفالي في جميع مراحلها ابتداءً من الحرث، والبذر، وحتى موسم الحصاد، ومجيء «الحصّادة» فيما يُسمى «رغاطة»، أي فزعة الأهل، والجيران، والأصحاب للحصاد حتى ينحز بشكل سريع، ويكوم أكوامًا بحسب كميته، أو كومًا واحدًا وغيره ويسمى الكوم المتراكم من الشعير المحصود بـ)النادر(، والاكوام المتعدَّدة نوادر «جمع» نادر. بانتظار مجيء أهم عنصر في هذه العملية على الإطلاق وهو سائق «التريبيا»، وهي التي تدرس الشعير، وتفصل الحب عن التبن، وبالتالي تمييز المحصول، وفرزه استعدادًا لجلبه للسوق، أو تخزينه حسبما يريده الفلاح؛ فيدرس الشعير ويجمع في أكياس كبيرة غالبًا ما تكون من «الخيش»، وتسمى باللهجة العامية «شوال»، أو «شكارة بو خط»، وكذلك يكبس التبن في «البلاكة»، ويُخزن، أو يحمل للسوق .
شاهد الحديث .. في «خرابة النوادر»، وهي المطرُ، فمن حيث كونها ضرورية، ومطلوبة ومفرحة، ومن دونها ما ينبت الزرع؛ فهي أيضًا الخرابة، والمفسدة ومسبَّبة الخسائر، ويتسارع الفلاحون لإنجاز مهامهم قبل أن تباغتهم لأنها تفسد الشعير، وتفسد التبن، وتضيع الموسم فالنافعة تصبح ضارةً.
وهنا قياس مهم جدًا .. فالمطرُ بلا شك متعدَّدة الفوائد على المطلق، وهي الخير والرحمة، والبركة وهطول الأمطار يلهب في النفس المشاعر الجياشة، والفرح، و)يا مطر صبي صبي( .. إلى آخر الاهازيج المتنَّوعة التي تكرس لإيجابية المطر بالنسبة للعموم.
ولكن هذا القياس يصير كارثيًا على اقتصاد البلد، ومفسدًا لمواسم القمح، والشعر وأحيانًا يتحوَّل إلى فيضانات من شأنها الإضرار بشكل علني .
ما أردتُ أن أشير إليه هو لو أننا نهتم بقياس كل ما يدور حولنا بشكل نسبي عليَّ وعلى الآخرين وعلى بلادنا لما وصلنا إلى مثل هذه الانسدادات في مختلف مظاهر الحياة بالبلد .
فما هو مفيدٌ لكَ قد يكون ضارًا لغيرك وما يفرحك قد يكون مجلبةً لحزن غيرك، وبالتالي نصل إلى ثقافة المراعاة، والاهتمام المشترك وتتسع مداركنا ورؤانا ونصل إلى مستوى محترم من الحوار بين الإخوة الذي من شأنه أن يصنع البلد، ويعيد لها إتزانها الذي ضاع في غياب المراعاة والاهتمام والنسبة بين النسب المتفاوتة.
خرابة النوادر .. هي صابةُ العام، ولها أوجه عديدة من القيم، وتختلف على اختلاف مستويات الثقافة والتلقي .
والحر يفهم من الغمزة، والعبد يفهم من الهمزة .