حكاية التراث الغنائي ..
بدايةً من المهم أن نعرّف ما هو اللحنُ الذي يمكن أن يقال عنه قديمٌ .. ؟
* اللحن الشعبي القديم بكلماته مهما جرى عليه من تغيير، أو إضافة يظل «شعبيًا» فقط، إذا عرف لحنه وكلماته معظم النَّاس في منطقته وهو بالضرورة لحن بسيط يتكون من جملة موسيقية واحدة أو اثنتين، وهو أيضًا بالضرورة له إيقاع شعبي مشهور .
ثانيًا : أن نحلَّل بالدراسة اللحن الشعبي «موسيقيًا» لنتعرَّف على خصائصه وبالمقارنة مع المشهور من التراث .
ثالثًا : تسمية المنطقة وإنّ اللحن الشعبي، أو التراثي هو أي لحن قديم بالضرورة، ومجهول المؤلف وغير معروف فإن منطقته معروفة..
رابعًا : إن الفنانين الذين يستلهمون لحنًا شعبيًا ويقدمونه بصورة مقبولة هم يُسهمون في إبراز التراث الذي يكون غائب الذكر إلا في مناطقه لينتشر في ربوع البلاد ويسهم بالتالي في تجميل وتأصيل الناتج الغنائي عمومًا .
سادسًا : إن التراث المعنوي مثل الأغاني، والشعر فيه تداخل وتقاطع تماثل مادته تتوالد من بعضها بعض وتتطور لذا يمكن القول من يشتهر على يديه عمل هو صاحبه.
سابعًا : الدفاع دون كلَّل عن حقوق الملكية متى وجد الدليل أن العمل مسروق أو تم الاستحواذ عليه من غير المبدع ودعم صاحب العمل.
ثامنًا : التفريق بين التراث و«الفلكلور»، و أنه من حق أي مبدع أن يستعين بلحن غيره في أعماله، ويقدمه على أنه «تراث»، أو «فلكلور»، وقد تكون تراثًا فعلًا لو مر على إنتاجها 50 سنة، أو فلكلور لو الأغنية غير معروف كاتبها، وملحنها.
دعوني الآن أضع أمامكم سيناريو «من الخيال» لا أظن أنه يبتعد كثيرًا عما كان يحدث زمان عند إعداد أغنية جديدة .. سيناريو لأغنيتين في غاية الجمال، و التنوع والتعقيد الموسيقي لحنًا، و إيقاعًا.
الأغنية الأولى )جرت السواقي لِيه( شاعر الأغنية هو الأستاذ محمد الطاهر شقليلة، أو «ابن الطاهر»، في سيناريو خيالي جلس الأستاذ الطاهر في سانية «بستان» ببلدته مدينة الزاوية شاهد المياه وهي تتدفق من ساقية «غالبًا جابية» تمر نحو النخيل، وباقي الأشجار.. خلال ذلك كان يستمع إلى غناء قريباته يغنين نغمة مكرَّرة فانشد على اللحن نفسه كلماته «جرت السواقي للنخل وسقاته» نغمة واحدة .
والايقاع شعبي بطئ نغمة واحدة من جملتين مكرَّرة وكرَّرها مع باقي كلمات الأغنية ثم إلتقى بالفنان سلام قدري الذي حفظها من مؤلفها بلحنها الشعبي البسيط وغالبًا جلس سلام قدري مع زملائه الفنانين يعرض عليهم اللحن في نغمته الشعبية «الخام» هنا اقترح أحدهم تثبيت المقام فبرز مقام العجم غير المعتاد، وهنا تمت إضافة عدة نغمات ثم تم ترتيب الكلمات وإضافة الردود الموسيقية كلها مقام العجم مع آهات الكورس النسائي لتكملة مقياس الإيقاع وهو 4/4 والأقرب إلى الرومبا منه إلى السامبا .. المعضلة الآن هل «جرت السواقي» من ألحان سلام قدري أم هي
لحن شعبي قديم؟ وحتى يمكن أن نجيب لا بد أن نستعرض سيناريو آخر لأغنية أخرى تكاد تكون الأقرب للحن «جرت السواقي» من حيث أنها نفس المقام «العجم»، ومن نفس نوع الإيقاع تقريبًا «السامبا» غير الشعبي ! وسيطرة آلة إيقاع البينكوز .. حتى أن الأستاذ محمد مرشان اضاف «نقطة اتصال»، وهي موسيقى خلفية تختلف عن لحن الأغنية وهذه إحدى بدع التأليف الموسيقي .. كما وظف أصوات الكورس المتداخلة بعناية .. أغنية عبقرية موسيقيا .. هذه الأغنية كتبها الأستاذ إبراهيم الطوير .. مع .. السيناريو أنه سلم كلمات الأغنية للأستاذ محمد مرشان .. ولا بد أن محمد مرشان كانت تدور في خُلده نغمة سمعها في مرزق يغنيها مطرب شعبي .. نغمة مكرَّرة بسيطة لكنها تنتهي بلحن قفلة المذهب مقام العجم والتي أصبحت في الأغنية «كلّمتها واطت» ..
الأغنية الثالثة للمقارنة هي«أيام كيف الورد ذبلتيهم» .. وهي ايضًا من تأليف الأستاذ محمد الطاهر شقليلة.. وهي من التراث واسم ملحنها بكل وضوح الاستاذ محمد الموجي .. الأغنية بمقدمتها ليبية وكذلك روحها .. أغنية جميلة غناها الأستاذ سلام قدري بجدارة .. وتنتهي بما يشبه «البرول» الشهير في الأغنية الليبية.. هنا نجد أن الموجي قد استلهم من الجمل اللحنية الشعبية ما صنع به تحفة غنائية .. السؤال الآن لماذا نعتبر أن لحن «أيام كيف الورد ذبلتيهم» لحن محمد الموجي ولا نعتبر لحن «جرت السواقي لِيه» لحن شعبي قديم، وليس لحن سلام قدري، أو لماذا نعتبر أغنية «واطت العين عليا» لحن شعبي قديم وليس لحن محمد مرشان؟!.