أقرأ في ارتياح لا أستنكف البوح به ما يكتبه بعض سالكي الدرب الثقافي من آراء حول ما أُسهم به صحفيا أو إلكترونيا ما يأخذونه من غموض المقصود، إذ لولا القراءة الجادة وما تحمله من حرص على الفهم، ما كان للانطباع المختلف أن يُعلَن، وما دام هذا المختلف قد ظهر فإن الإيجابي فيه يزيد قدرا على ما عداه، فليس للصمت أشد قتلا للأثر، وذلك مذ قال أحد القدامى وهو يرد على من سأله مستنكرا بقوله لماذا لا تقول ما يُفهَم؟, فرد في عجب ولماذا لا تفهم ما يُقال!، فتبين أن التأثير لا يتحقق إلا بتعدد الآراء وأن الترجيح يستوجب الطرف الثالث، وبصدد هذه الإشكالية وضمن ما قرأت مما قد يمسني في الخصوص، أقول أننا لا بد أن نفرق بين من يصدر في تناوله عن ذات تتسع للآخرين وتحرص على تنمية المشترك معهم ما دام الهدف حفظ التواصل البنّاء، فالحياة من الاتساع حتى لا ليستحيل على كل من يريد لها أن تضيق كي لا يظفر بمراده ومردود التواصل وما هو الأجدى وبالضرورة الأبقى، وحسبنا أن نعود إلى العقود الخمسة الأخيرة التي بدأت بسبعينيات القرن الماضي حين عرف مجتمعنا مصطلح العهدين المباد والثوري، ليتسرّب الثالث القبلي والذي وجد فيه الكثيرون ما يحقق حرصهم على ضمان تبعية الآخرين أحيانا واتقاء شرور المتسلطين أحيانا أخرى، خاصة وأن ذلك قد تزامن مع ارتفاع سعر البترول عالميا وازدياد تدفقه محليا وما تبع ذلك من تنامي العوائد ومن ثم استحالة الضغط على المتساكنين في سبيل العيش خاصة وأن هؤلاء المتساكنين من القلة التي وجدت في الموارد ما جعل في الابتعاد عن السلطة والزهد في كل ما تُلوِّح به من بريق المواقع أضألُ بكثير مما صار يعج به القطاع الخاص من مظاهر الحياة التي غدت تستميل العاملين في السلطة بعد أن كانت في الماضي بعكس ذلك تماما فكان لا مهرب من الاستعانة بغير الليبيين وما هم عليه من الجاهزية لتلبية أي طلب يُلوِّح به كل من لديه قدرة على تسديد المقابل، والذي تعددت صنوفه وأمكنة استلامه.
إنها الوضعية التي أنتجت وعيا وفرضت في مجال التعبير لغة تعتمد التلميح بأكثر مما تنحى منحى التصريح مما زاد عدد المتنافسين على التأييد لما يُطبَّق من سياسات و يُرفع من شعارات فقوّى التعويل على الرمز والإشادة به من طرف الدارسين، وبالمقابل ارتفع عدد الذين يضيقون من غموض النص وحاجته للتأويل، الذين قد يعجزون عن مجاراته أو يغارون من دلالته مما جعل من الابتعاد عن بعض الفنون أدعى إلى نيل السلامة ولا سيما المسرح الذي كان أول الفنون استهدافا والنابغين فيه أول الضحايا، فدفع البعض الثمن غاليا وفضّلَ الانسحاب من فضّلَ وقد تغيرت الظروف أكثر من مرة وتبين أن المجال يتسع بل ويحتاج إلى الجميع، وأكثر متخصصي الأمس أشدهم حاجة للاتفاف حول بعضهم اليوم. وأعود إلى ما أقرأ فأقول ليكن شعار أي منا دوما أنا غير أنت وأنت غير أنا، لكن الجميع في حاجة لي ولك، لأن الخيمة التي يُراد لها أن تتسع للكل لا تقوم بدون عمودين وكل من قد يدفعه عقيم فهمه وسوء تقديره للاكتفاء بعمود واحد لن يخرج بغير الخسارة المحققة، وعندئذ قد نقبل بحقيقة أن لا محبة دائمة ولا عداوة دائمة في حياتنا الدنيا، وإنما فيها فقط المصالح التي طالما فضحت أكثرنا، وربما كان ذلك سبب غموض الكثير مما نُعبّر عنه وشيء على كل حال خير من لا شيء.