قبلتُ في سرورٍ لم أخفه مهمة تسليم رسالة الشكر التي اعتاد «حزب السلام» والازدهار توجيهها في مختتم المحاضرة الأسبوعية التي دأب على تنظيمها قبل ما يزيد على سنتين لما عبّرَت عليه الرمزية المتعلقة بتقدير جهد المحاضر بدر الدين المختار، وكذا احترام الأسبقية التاريخية بالنسبة ليَّ شخصياً، فها نحن بعد ما يقرب من ستة عقود نشهد جيلاً مؤهلاً في ريعان الشباب يجدون في ما تَمَكنّا من كتابته جهداً معدوداً تجاه الهوية الوطنية والتي عُرِفَت في زمنها بالشخصية الليبية، بدأت في النصف الثاني من الخمسينيات واكتسبت زخماً في آخر الستينيات، عندما جاء التناول قائمًا على الوعي بسلامة المقومات وتوفر شروط التحقق وسلامة المرجعيات، فدعونا لمحتوى أعمق للشخصية الليبية ينأى بها عن التهريج الإعلامي ومحاولات احتكار التنظير وبوادر الاستفادة. إنه العمق الذي تجلّى في ممارسات جيل أمكن إقناعه بجدوى قبول المسؤولية والمشاركة في معركة البناء كما رأينا في إعطاء أبرز المستوعبين لهذا التوجه والمتحمسين له المرحوم عبد المولى دغمان الذي لم يترك الجامعة محصورة الاهتمام في زيادة عدد الخريجين، وإنما الدفع بهم نحو جامعات العالم للنهل من التجديد والاستعداد لقيادة المجتمع نحو التحضّر والاعتداد بالذات وتفادي التلاشي، أما الآخر الذي يرى في القومية أكثر من وسيلة للتوسع والأممية مسوغًا للهيمنة، ونوع آخر مثّله علي عتيقة الذي جعل من التنمية مشروعًا نهضويًا يعتمد التخطيط المكتمل الذي يشمل البلاد كافة، ومحمد بن يونس حين اتخذ من قبول عمادة بلدية بنغازي مهمة إعادة الألق للمدينة التاريخية عندما حُمِّلَت من اغتيال إبراهيم الشلحي ما هي منه براء، وانتباه مسيس كإبراهيم الهنقاري الذي تنبه بقوة إلى ما بدأ به بعض الأشقاء العرب من استغلال التضامن العربي في وقت تصدير البترول واعتباره فرصة للاستيلاء على الأسواق الليبية عندما انشغل بعض المسؤولين عمّا كان يُدبّرُ سِرّاً، فحرص على توعية الواعين من الإعلاميين بهذه الحقائق.
إنها المرحلة التي عُدِّلَ فيها قانون البترول للأخذ بعقد المشاركة ومثله الضرائب لدفع التجار للآداء مع توسيع فرص العمل والتمويل والسلك الدبلوماسي بإتاحة فرص العمل لمكون الشباب الذين طالما حيل بينهم وبين المشاركة الواسعة، وأخيراً مشروع البِرّ والمساعدات الاجتماعية والذي أُريدَ له أن يكون بداية لتنظيم سياسي بدأ بإسناد مسؤوليته للأستاذ عبد اللطيف الشويرف وعامر البكوش، هي مرحلة بدأت تاريخياً بمصطفى بن حليم عندما ترأس الوزارة ولم يتجاوز الخامسة والثلاثين ليأتي بعد سنوات عشر عبد الحميد البكوش ليتبنّى الدعوة إلى الشخصية الليبية من موقع المسؤولية ويستعد لزيارة عمل بالغة الأهمية لم يُمَكّن من انجازها فيتضح أن مرحلة جديدة أُريدَ لها أن تكون فكانت وقد دامت عقوداً أربع ونيِّف، كادت أن تجعل من الدعوة إلى الشخصية الليبية منقصة والحزبية تهمة والتدريب العسكري مسوغا للتعذيب بل وتحديد الإقامة وحضر السفر إلى خارج البلاد، ومع ذلك يُولَد ويتكون جيل من بين أبنائه «بدر» الذي لم يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره ولم يحل بينه وبين موضوع الهوية والشخصية الليبية واستحقاقاتها تخصصه الطبي أو المناهج الرسمية التي لم تعطها ما تستحق من التأسيس، فيشقُّ طريقه معتمداً على جهده واقتفاء آثار الجادين من مثقفي بلده فيؤكد حضوره أن البقاء دائماً للحق والوطن والتاريخ، فيُثلج صدورنا بمحاضرته ويطمئننا بأن الهوية الليبيىة فوق الهوى وأرسخ من الأهواء وأقدر على استنفار الناس كافة للمحافظة على سلامة الوطن أولاً وتأجيل الخلاف وبالأحرى الصراع على حكمه لاحقا، فالبيت لا تُقَسَّم حجراته للسكن قبل أن يتم بناؤه وطلاؤه وأخيراً تأثيثه فينعم أهله بسكنه ليضيفوا إليه البيت تلو البيت، وليس اللجوء إلى الهدم كما يفعل الحمقى من مسؤولي هذا الزمان.