رأي

المربوعة

نجاح مصدق

للعبة‭ ‬ما‭ ‬مع‭ ‬القدر‭ ‬ومفاجآت‭ ‬الحياة‮ ‬‭ ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬سواه‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬الهرم‭ ‬،كانت‭ ‬حالة‭ ‬اشبه‭ ‬بالصحو‭ ‬من‭ ‬سبات‭ ‬أهل‭ ‬الكهف‭ ‬والعودة‭ ‬إلى‭ ‬أزمنة‭ ‬اختفت‭ ‬في‭ ‬زحام‭ ‬الذاكرة‭ ‬حتى‭ ‬لم‭ ‬يتبق‮ ‬‭ ‬منها‭ ‬شيء،‭ ‬هكذا‭ ‬كان‭ ‬يتوقع‭ ‬الجميع‭ ‬وهكذا‭ ‬ظن‭ ‬هو‭ ‬ايضا‭ ‬في‭ ‬نفسه

عندما‭ ‬استقبلته‭ ‬أسرة‭ ‬أخيه‭ ‬المتوفى‭ ‬لم‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬نصب‭ ‬عموده‭ ‬الفقري‭ ‬بشكل‭ ‬مستقيم‭ ‬حتى‭ ‬يحضن‭ ‬الرؤوس‭ ‬الصغيرة‭ ‬ويربت‭ ‬على‭ ‬اكتاف‭ ‬الكبار؛‮ ‬

كل‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬مسح‭ ‬عينيه‭ ‬بشده‮ ‬‭ ‬بطرف‭ ‬منديله‭ ‬ناصع‭ ‬البياض‭ ‬في‭ ‬وسطه‭ ‬والمزخرف‭ ‬بنقوش‭ ‬على‭ ‬الحاشية‭ ‬تبدو‭ ‬كالتواءات‮ ‬‭ ‬أفعى‮ ‬

اغمض‭ ‬عينيه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‮ ‬‭ ‬لعله‭ ‬يرى‭ ‬بوضوح‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬اقترب‭ ‬من‭ ‬الشفاه‭ ‬والهامات‭ ‬الصاخبة‭ ‬بالحفاوة‭ ..‬همهم‭ ..‬حرك‭ ‬رأسه‭ ‬كانّه‭ ‬يرسل‭ ‬إشارة‭ ‬للكف‭ ‬عن‭ ‬إلحاح‭ ‬السؤال‭ ‬،تبسم‭ ‬ابتسامه‭ ‬مغلولة‭ ‬إلى‭ ‬وقاره‭ ‬ثم‭ ‬انتظر‭ ‬ان‭ ‬يفسح‭ ‬له‭ ‬مكانا‭ ‬في‭ ‬الحجرة‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬المنزل

لكن‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬غير‭ ‬الوجهة‭ ‬حتى‭ ‬انه‭ ‬لوهلة‭ ‬ظن‭ ‬بان‭ ‬الزهايمر‭ ‬في‭ ‬أوج‭ ‬تمكنه‭ ‬لدرجة‭ ‬أنسته‭ ‬أين‭ ‬ينبغي‭ ‬له‭ ‬ان‭ ‬يكون‭ ‬ويجلس

سيق‭ ‬إلى‭ ‬جلسة‭ ‬ذات‭ ‬ارائك‭ ‬وفرش‭ ‬عالية‮ ‬‭ ‬انتظر‭ ‬بسكون‭ ‬البحر‭ ‬حين‭ ‬يبتلع‭ ‬سرا‭ ‬ان‭ ‬يحين‭ ‬وقت‭ ‬المغادرة‭ ‬فالمكان‭ ‬خال‭ ‬من‭ ‬أصوات‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬حتى‭ ‬الروائح‭ ‬الذي‭ ‬لازال‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬تمييزها‭ ‬كانت‭ ‬مختلفة

‮ ‬بن‭ ‬برازيلي‭ ‬ورغوة‭ ‬تعلو‭ ‬الأكواب‭ ‬وقطع‭ ‬من‭ ‬الحجارة‭ ‬القاسية‭ ‬على‭ ‬الأسنان‭ ‬تصطف‭ ‬في‭ ‬صحن‭ ‬صغير‭ ‬من‭ ‬البلور‭ ‬بمحاذاة‮ ‬‭ ‬القهوة‮ ‬‭ ..‬نظرة‭ ‬التعجب‭ ‬المتسائلة‭ ‬كانت‭ ‬تبحث‭ ‬فالانحناء‭ ‬لا‭ ‬شاي‭ ‬على‭ ‬البراد‭ ‬ولا‭ ‬رغوة‮ ‬‭ ..‬لا‭ ‬خبزمصنوع‭ ‬بايدي‭ ‬حانية‭ ‬ساخن‮ ‬‭ ‬يقتفي‭ ‬اثره‭ ‬خلف‭ ‬ليال‭ ‬ضائعة‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬زاحمت‭ ‬ذات‭ ‬المكان

ولأن‭ ‬الأماكن‭ ‬طاردة‭ ‬لغير‭ ‬المنسجمين‭ ‬وقف‭ ‬قبل‭ ‬الجميع‭ ‬قاصدا‭ ‬الباب‭ ‬الرئيس‭ ‬للخروج‭ ‬وكأن‭ ‬الزمن‭ ‬آن‭ ‬للملمة‭ ‬بعضه‭ ‬و‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬يسلم‭ ‬على‭ ‬احد‭ ‬بعد‭ ‬فتور‭ ‬يعقب‮ ‬‭ ‬حفاوة‭ ‬مجاملة‭ ‬و‭ ‬وسط‭ ‬الجلبة‭ ‬تسللت‭ ‬روحه‮ ‬‭ ‬الغريبة‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬اثر‭ ‬قديم‭ ‬يدلها‭ ‬لمنفاها

وقف‭ ‬أمام‭ ‬الصالون‭ ‬هكذا‭ ‬اصبح‭ ‬يسمى‭ ‬او‭ ‬حجرة‭ ‬استقبال‭ ‬تفحص‭ ‬المكان‭ ‬هو‭ ..‬نعم‭ ‬هو‭.. ‬داخله‭ ‬يحمل‭ ‬يقينا‭ ‬بانها‭ ‬المربوعه‭ ‬لكن‭ ‬شيئا‭ ‬ما‭ ‬أحال‭ ‬الطلاء‭ ‬إلى‭ ‬ألوان‭ ‬وسحب‭ ‬لا‭ ‬يعهدها‭ ‬شيئا‭ ‬ما‭ ‬قلب‭ ‬الفرش‭ ‬والوسائد‭ ‬النحيلة‭ ‬والكليم‮ ‬‭ ‬الى‭ ‬منابر‭ ‬مستوحاة‭ ‬من‭ ‬بداوة‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬هنا‮ ‬

للحظة‭ ‬لمح‭ ‬اشقائه‭ ‬الأربعة‭ ‬وهم‭ ‬يأكلون‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬‮ ‬‭ ‬ومتكىء‮ ‬‭ ‬والده‭ ‬وسط‭ ‬المربوعة‭ ‬والنافذة‭ ‬التي‭ ‬يعلق‭ ‬عليها‭ ‬عكازه‭ ‬والفرملة‭ ‬ذات‭ ‬الجيوب‭ ‬الواسعة‭ ‬المتلئة‭ ‬بسخاء‮ ‬‭ ‬وصورة‭ ‬من‭ ‬وحي‭ ‬قرآني‭ ‬لطالما‭ ‬نظر‭ ‬اليها‭ ‬الجالسون‭ ‬عن‭ ‬إسماعيل‭ ‬وكبش‭ ‬الفداء‭ ‬‮…‬لوهلة‭ ‬تذكر‭ ‬الرفاق‭ ‬والمتخاصمون‭ ‬ذات‭ ‬عشية‭ ‬وهم‭ ‬يتحاكمون‭ ‬للفض‭ ‬وسط‭ ‬هذه‭ ‬القاعة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تشكل‭ ‬محكمة‭ ‬عرفية‭ ‬في‭ ‬ذاكرته‭ ‬التعبة‮ ‬

حتى‭ ‬أصوات‭ ‬الأهل‭ ‬وروائح‭ ‬الموائدة‭ ‬العامرة‭ ‬بالود‭ ‬انبثقت‭ ‬أمام‭ ‬ناظره‮ ‬

عصف‭ ‬هز‭ ‬ماتبقى‭ ‬من‭ ‬حيله‭ ‬للمقاومة‭ ‬وحنين‭ ‬أجثر‭ ‬اعماق‭ ‬روحه‭..‬‮ ‬‭ ‬انتصب‭ ‬فجأة‭ ‬على‭ ‬استقامته‭.. ‬مد‭ ‬بصره‭ ‬ورفع‭ ‬رأسه‭ ‬و‭ ‬همهم‭:‬

وين‭ ‬الجرد‭ ..‬ثم‭ ‬اغمض‭ ‬عينيه‭ ‬كمن‭ ‬يعانق‭ ‬الغائبين‭ ‬بعد‭ ‬طول‭ ‬اشتياق‮ ‬‭ ‬وسقط‭ ‬المنديل‭ ‬المزركش‭- ‬منكمشا‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬مع‭ ‬بقايا‭ ‬من‭ ‬ماء‭ ‬رطب‭ ‬بالوحدة‭ ‬لازال‭ ‬عالقا‭-‬‮ ‬‭ ‬أمام‭ ‬باب‭ ‬المربوعة‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى