بعيدًا عن الانجرار خلف السباق المحموم الذي تتعدى آثاره وفاعلية وسائله بين الأطراف المتصارعة من الأذرع الليبية ومن خلفها من عديد القوى، فإن الزيارة التي قامت بها رئيسة حكومة إيطاليا أخيراً إلى بلادنا تُوجب على كل من يرقب ما يجري عندنا بمسؤولية أن يخص هذا الأمر بما يستحق من التدبُّر بقطع النظر عن جدوى هذا التدبُّر من عدمه، فالاهتمام بالأوطان جزءٌ لا يتجزأ من الإحساس بالوجود، باعتبار ذلك فوق المواقع ومستوى العيش ونوعية السكن والمركوب إلى آخر ما صار يمثل هوايات الناس وقدراتهم أو لنقل جدارتهم بالتعاطي في مختلف الشؤون وما زخرت به أحوال الناس من مستجدات القيم ومقومات النجاح والفشل، ومما لا شك فيه أن هذا الفهم قبل غيره قد يكون هو ما دفع الزائرة المهمة لأن تضع في حسابها أن تشمل زيارتها غرب البلاد وشرقها، وإذ كانت الشواطئ الطويلة المقابلة لإيطاليا وما حولها قد فرضت مثل هذه الترتيبات، على خلفية أن هذا الشاطئ في عمومه يسمح لمن لديه الرغبة في بلوغ اليابسة ألا يبذل سوى القليل من الجهد، كما أن نزول البحرية الإيطالية قبل قرن مضى وفي زمن لم يكن التقدم الفني كما هو اليوم في مقدمة ما يفرض التواصل مع شرق البلاد وإعطائها الوزن المناسب بالنظر لما تمليه موازين القوى الناتجة عن الثروات الطبيعية والكوادر البشرية أو الموقع القادر على تيسير كل شروط التواصل مع المحيط. إنه الموقع الذي شهدت به عديد التقارير التي تناولت أحداث الحرب العالمية الثانية وقبل ذلك ما كُتِبَ عن امكانيات الاستثمار، حتى أن الحركة الص.هيو.ني.ة قد وضعت بين خياراتها منطقة الجبل الأخضر في مطلع القرن الماضي، إنه المشروع الذي بادر إلى نقله إلى اللغة العربية المرحوم الأستاذ مصطفى بعيو، ودشّنَ به ضمن ما دشّنَ المشروع الليبي التونسي الذي أُنشئ بسبعينيات القرن الماضي الأستاذ خليفة التليسي رحمه الله عندما عهد إليه الطرفان بتلك المهمة التي حملت اسم الدار العربية للكتاب، وقد تمكنتُ شخصياً من نشر مقاربة على صفحات الأسبوع الثقافي حمّلتها الكثير من الرسائل الدالة على توجسي وتوجس أمثالي من مشروعات الوحدة غير المتكافئة التي رفع شعارها نظام الفاتح من سبتمبر ولم نُخْفِ ذلك التوجس ولن ننكر على النظام فهمه لهذه الحقيقة ولم يحسبها ضمن ما حُسِبَ من المآخذ. لقد كانت فترة مليئة بالقلق والتنافس بين الذين وجدوا أنفسهم متصدرين للمشهد مفتقدين لكل مقومات البقاء إلا أن قدرتهم على المناورة وتأجيل التمتع باللذائذ ساعد على تفادي كل ما كان مهدداً لسلامتهم، حتى كان هذا البقاء اللافت والذي لا يمكن اليوم لمن يستعجل المسارعة بتكرار النهايات دون أن يستوعب البدايات وما كثر فيها من السقطات ووجود قوى كثيرة تنظم صفوفها ليس من أجل التوريث كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان وأن دورة التاريخ لم تعد تسمح لما سوى الصندوق حكماً والبطاقة حُجةً، وكل تساهل مع العرقلة ليس له من سبب سوى أن الطبخة لم تنضج بعد، وما يبذله بعض متصدري المشهد من اللهث طمعاً في البقاء هو من قبيل المُضحك المُبكي.