كنت قبل سنوات أشغل مسؤولا اعلاميا في إحدى البلديات .. وكانت تلك المرحلة بطبيعة حال مؤسسات الدولة الهشة مرحلة صعبة بكل ماتعنيه الكلمة . . لهذا تعددت الأزمات بشكل غير مسبوق وأصبحت المهام صعبة والأداء يحتاج إلى تظافر جميع الحواس الذهنية والحسية .. لذا استوجب الأمر أن تكون حاضرا في كل الأوقات واللحظات لرصد الأداء وايضا لتوثيق المرحلة بكل ما فيها ..
حالتي التي أود سردها داهمتني في صباح أحد الأيام الشتوية عندما تم استدعائي لتوثيق مشهد انساني مرعب .. رغم امتعاضنا ورفضنا له..
لحظات وكنت صحبة المصور في عين المكان الذي بدا لي من الوهلة الأولى وكأنني أمام اكشن تم اعداده بعناية.. اجساد ملقاة على ضفاف البحر البريء من أفعال البشر والغاضبة امواجه من افعالهم .. وفي الجانب الآخر ثمة اجساد اخرى حية الروح الا انها ميتة تماما على الوجود . شباب في ريعان العمر يرتدون ثياب نساء ونساء يلتحفن ثياب رجال دون أي ازرار .. وجوه شاحبة حد الذهول وكأنها قد خرجت قبل لحظات من رياح صرصر عاتية ..
جلستي اللا ارادية كانت بالقرب من رجال إحدى الكتائب الأمنية ممن اعتادو على هذا المشهد .. حاولت الاستماع الى استجواب كل فرد من هؤلاء المرهقين من اصحاب البشرة السمراء المنساقين على شاطيء البحر ولكن دون سلاسل .. قائد فرقة النجاة سأل الأول .. من معك فأجابه زوجتى وابني
واين هم .. أجابه دون مهل وبروح منزوعة من اي ذرة من المشاعر ..في البحر .
انصرف وجاء الآخر وسأله من معك فأجابه بنفس الروح المنزوعة من الروح .. أمي وأخى وقد تركتهم في اعماق البحر .
وهكذا تتوالي الاجابات وكأنني في حلم ليلة شتوية اعيش واقع حياة غير مألوفة او انني مازلت تحت تأثير سمائها الرعدية المنهمرة وما صاحبها من نوم ثقيل الدفء والهواجس أيضا.
لقد شاهدت بشرا يتعايشون مع أعظم مآسى الحياة في عمق البحار يفقدون آباءهم وأمهاتهم وابناءهم في لمح البصر .. تقبض أرواح من أراد الله لها ذلك وتقذف أمواج البحر من شاءت الأقدار أن تكون له جولة وصولة أخرى .
في حقيقة الأمر سنوات العمر التي مضت على تلك الليلة، وذلك الصباح ازاحت حدود المشهد من ذاكرتي وأصبح مجرد يوم مآساوي ولكن ما جعلني اتذكر بكل مرارة وآلم وبهواجس تتلاطم في جوف القلب والعقل ما قاله أحد الشباب الليبي لأمه وأبيه، وهم يتبادلون أحاديث مسلية بأنه قد عزم الأمر على أن يخوض تلك التجربة التي كنا نعتقد بأنها وافدة الا انها اصبحت حلم آغلب شباب ليبيا .. نعم الحرق اصبح ضمن روافد وطموحات الشباب الليبي .. ولم يعد يحتاج فعلا لمن يقنعه بأن الوطن قادم وأن سياسييها ونخبها سيضمدون جراحها .. وهي نتيجة منطقية عندما تظل رؤوس النعام مغروسة في الرمل بينما رؤوس الجهال ممن اعتبرناهم نخبا وولاة أمر تعانق السماء المغيمة بسواد صنائعهم .. لقد جاء الدور على أجساد شباب هذا البلد البائس عندما اكتشفنا ان هوية من حرقوا ليلة البارحة هم شباب وشابات ليبيين .. ومازالت الصفوف الأخرى تنتظر دورها .. نعم لقد جاء دور قلب الام والاب الليبي كي يحترق بحرق ابنائهم
كونوا بخير