أواخر التسعينيات عقب تخرجي الجامعي من قسم «اللغة العربية» التي أحبُ وبعد سنوات التعب، والمثابرة، والالتزام والحضور اليومي لملاحقة المحاضرات والجدية منا كطلبة ومن الأساتذة ودكاترة الجامعة كنتُ أتوق لخوض تجربة العمل بلهفة واتوقع فيما يتوقع الحالمون أنّ الوظيفة والتعيين في انتظاري، وأنا التي تحصلتُ على معدل عالٍ وتقدير امتياز في رحلة الجامعة الجميلة بحلوها ومرها وكفاح والدي معي وهو يخوض أول سنة تقاعد له وانتظاره لساعات ليَّ حتى انهي محاضراتي، وكيف أنهال عليه بحكاياتي طوال طريق العودة إلى المنزل وماذا حدث؟، وعن تفاصيل لطالما لمست فيه الرغبة الشديدة لسماعها .. والإجابة عن تساؤلاته الدائمة في رحلة يومية تعلمتُ فيها الكثير منه حتى أصبحنا صديقين قريبين جدًا نحلم معًا، ونخطط معًا ويعكر صفو أحاديثنا الشيء ذاته .
أبي بعد فرحه الشديد بتخرجي وشعور الغبطة الذي رافقني وان اقدم هذه الشهادة له كهدية مني احبها جدا .. وحرص على أن تعلق وسط حائط بيتنا بعد ان أطَّرها ببرواز ذهبي جذاب لافت لكل من يزورنا.
أبي أكمل المشوار معي وبدأنا في رحلة الحصول على وظيفة وتجهيز ملفات وطرق عدة أبواب أيام وأيام وأشهر.
ذات يوم انتظرني وأنا ادخل إحدى الإدارات كنتُ أراجع على ملف ليَّ قدمته ولم اتحصل على إجابه بالقبول أو الرفض للوظيفة ووجدتُ إحدى زميلات الدراسة التي لم تكن مهتمة يومًا بالحضور والنجاح ولا يختلف الأمر بالنسبة لها إن رسبت في مادة أو اكثر أخبرتني أنها تخرجت بتقدير مقبول واليوم ها هي تترأس وظيفة في الادارة التي قصدت والتي لا علاقة لها بتخصصنا .. للحظة لم استوعب شيئًا غير أني رسمت ابتسامة باهتة شاردة خبأتُ خلفها اسئلة موجعة وغادرتها بعد ان علقت بأذني عبارتها التي لم تنس إلى اليوم )شن درتي بالامتياز(وضحكة لا تخلو من السخرية.
خرجتُ لأبي كما لو كنتُ طفلة ألوذ إلى حضنه حينما اعجز عن الكلام بعد لحظات من نوبة الصمت والحزن انهمرت اسرد الوجع وأرمي ثقله وحين أكملت انهماري صمت للحظة ثم أجابني:
يابنتي هذا الدروس لا أني ولا القراية حنعلموهالك الدنيا مش بالشطارة والفلاحة مرات بالبخت والحظوظ ويا ما من غصايص تندس… وتعلمتُ الدرس جيدًا منذ ذاك اليوم.