كُلما ضاقتْ بكَ الدّنيا أتسع قلبُك أكثر بأصدقائك، خاصة حينما نتأملُ صديقًا يتحلى بصفات راقية، ونجده مؤدبًا ومتعلمًا، ومثقفًا، وناجحًا. والأمثلة على الأصدقاء الأوفياء كثيرة، خلّدتها الحكايات، والقصص التي مرّتْ في التاريخ، من بينها صداقة متميزة لثلاثة رجال أَخبرنا عنهم كبيرنا وقدوتنا الذي نعتز به ونفخر الباحث والمؤرخ الأستاذ «سالم الكبتي»، أقدّمها كعبرة من الحياة. الصداقة علاقة اجتماعية مبنية على المحبة والاحترام والتقدير، وهي من أرقى العلاقات الإنسانية التي تتقارب فيها القلوب والأرواح، ويتبادل فيها الأصدقاء العهودَ على الوفاء والإخلاص، فالصداقة عالمٌ من الأُخوّة التي لا تربطها علاقة الدم وإنما علاقة الأرواح التي تآلفتْ مع بعضها بعض وقرّب بينها الحبُ الإنساني الصافي، ولهذا ليس غريبًا أن تكون علاقة الصداقة هي العلاقة البشرية الأكثر ديمومة، وهذا يدلّ على عمقها والمعاني العظيمة التي تحملها.
الثلاثة :
جمعتهم الدراسة..واحتوتهم المدينة..وحلقت أحلامهم إلى بعيد
ثلاثة اصدقاء جمعتهم الدراسة في المدرسة، ثم في كلية الآداب بالجامعة الليبية في بنغازي، حيث كانت تلتقي ببنغازي في تلك الأيام مجموعة من الطلبة من مختلف المدن الليبية للدراسة، احتوتهم المدينة وضمتهم، وتعلموا في زواياها ومدارسها ومعاهدها وجامعتها، وانطلقت أحلامهم وخطواتهم ونظراتهم إلى البعيد، كان بعضهم يقيم مع أقاربه، والآخر يقيم في القسم الداخلي التابع للمعارف في «التوريللي» بسيدي خريبيش قبالة شاطئ البحر، وهو حيّ من الأحياء القديمة المرحابة مفتوحة الذراع والقلب، ومجتمع عملي مرن، وثقافة تستوعب الغريب والجديد دون استثناء أو إقصاء، فسيفساء ونسيج اجتماعي متماسك حاكته أزقة سيدي خريبيش عبر المحن، تتمسك به في وجه كل من يريد أن يمزق هذا النسيج الاجتماعي المتميز، حيّ كل سكانه وافدين، بمن فيهم الولي الصالح «نجم الدين ابن محمد» سيدي خريبيش الذي عُرفتْ المنطقة باسمه، والمدفون فيها، وصل إلى مدينة طرابلس قادمًا من المغرب، تزوج هناك ثم جاء مع زوجته إلى بنغازي، أبناؤه سيدي يونس وسيدي سعيد، وسيدي خليفة، وسيدي منصور، وابنة واحدة هي فاطمة بعده جاء المرابط سيدي غازي من فاس بالمغرب أيضًا، واستقر في هذه المنطقة وتوفي ودفن فيها بجانب سيدي خريبيش، وسميتْ عليه مدينة )بني غازي(.
لقد انعقدت بين الثلاثة أصدقاء صداقةٌ، وخيوطٌ ود دامتْ ولم تنقطع، كان للصداقة معنى كبيرٌ بينهم، الثلاثة أصدقاء من جيل يعد منذ صغره فتح بصره على جملة من العادات والتقاليد والسلوكيات الثابتة، والتعليمات الصارمة داخل الأسرة الليبية، وفي الشارع والجامع والمدرسة، جيل متعدَّد ومتباين كان يعي معنى الصداقة، جيل ظل متميزًا يتحرك ويتطور ويقرأ ويهضم ما يصل إليه، جيل مكون ومحطة مهمة استطاع النهوض بالبلاد وارساء قواعدها، جيل كان من بينهم ثلاثة أصدقاء التقوا في المدرسة ثم في الجامعة، الثلاثة كانوا أصدقاءً في الدنيا، وأصبحوا جيرانًا في الآخرة، جمعتهم ظروف واحدة وأحلام واحدة وخطوات واحدة، الثلاثة هم من جيل الثلاثينيات في ليبيا، الثلاثة أصدقاء أبناء جيل واحد، فقد ولدوا جميعًا في العام 1937م، الثلاثة أصدقاء جمعتهم مدينة بنغازي، الثلاثة أصدقاء جمعتهم الجامعة والكلية واختلفوا في التخصص، لكنهم عادوا واتفقوا في التذوق والقراءة والموهبة وصوت السيدة فيروز والخط العربي الجميل، الثلاثة أصدقاء كانوا صورة من صور جيل أنجبته ليبيا تلك الأيام ولم تتوقف رغم الليالي الحالكات، الثلاثة أصدقاء في الدنيا وهم محمد حسين القزيري والصادق رجب النيهوم، واسعد أحمد المسعودي، الثلاثة اصدقاء كانوا مواهب فخمة تسير بلا انقطاع، الثلاثة أصدقاء كانوا وجهًا حقيقيًا لصداقة طويلة، حتى عندما ابتعدت اماكن اقامتهم عن بعض برزت بينهم مجموعة كبيرة من الرسائل الخاصة في زمن لم يكن لـ«لإنترنت» وجود بل كانت رسائل ترسل عبر البريد الجوي، الثلاثة اصدقاء اتفقوا في الحلم والدراسة وتميزوا بالذكاء واجادة اللغة العربية واللغات الحيَّة الأخرى، فالنيهوم مثلا كان يتحدث سبع لغات غير العربية، وهي )الانكليزية، والإيطالية، والفرنسية، والألمانية، والفنلندية، والعبرية، والأرمينية( .. الثلاثة اصدقاء احبهم كل من تعرَّف عليهم، خاصة شريحة العلم والثقافة، الثلاثة اصدقاء صالوا وجالوا في هذه الدنيا بعلمهم وثقافتهم الواسعة، وقدموا لليبيا الشيء الكثير، لكنهم لم يكونوا على مزاج مع من اختلفوا معه، فعاشوا خارج الوطن، وهم يحملون همومه.
ولد الكاتب الساخر محمد حسين القزيري سنة 1937م في مدينة درنة ودرس مراحل تعليمه الأولى في مدارسها، وكان ترتيبه الأول على مستوى المحافظات الشرقية في جميع المراحل، ثم انتقل في بداية الخمسينيات إلى مدينة بنغازي لإتمام الدراسة الثانوية، ليلتحق بعد ذلك بالجامعة الليبية للدراسة بكلية الآداب، قسم اللغة الإنجليزية، وكان من بين 32 طالبًا وطالبة شكلوا الدفعة الأولى لكلية الآداب التي بدأت عامها الجامعي الأول سنة 1955م – 1956م، وتخرج الأول على دفعته من بين الخريجين الذين بلغ عددهم 31 في الموسم الدراسي 1958م – 1959م، اختير معيدًا وأوفد في بداية الستينيات في بعثة دراسية إلى الولايات المتحدة الأمريكية ولكنه لم يحتمل الغربة وفراق مدينة بنغازي التي عشقها عشقاً لا يوصف وصار أحد شبابها المرموقين في مجال الثقافة والأدب والفكر فيما بين منتصف الستينيات ومنتصف السبعينيات، وقد شملت هذه الدائرة أصدقاءه المقربين الصادق النيهوم، وخليفة الفاخري ورفيقه رشاد الهوني، الذين صارت لهم بصمة في مجال الأدب والصحافة في ليبيا والعالم العربي، وفضَّل أن يختار الوظيفة، عمل في شركة Esso Standard Oil الأمريكية، ثم في غرفة التجارة والصناعة في بنغازي، حتى صار سكرتيرًا عامًا للغرفة، ثم نقل إلى طرابلس ليعمل كمستشار بوزارة الخارجية حتى رحيله إلى بريطانيا نهاية سنة 1977م حيث عمل كمترجم بالسفارة الليبية في لندن لمدة تقرب السنتين، عاد إلى ليبيا في أواخر 1979م ليتزوج بأم ولديه، ويعود مجددًا إلى بريطانيا سنة 1980م، وبقى بقية حياته هناك، وكان مثقفًا راقيًا، فهو أوّل من نقل أغلب قصائد شاعر الحماسة الوطنيّة «إبراهيم الأسطى عمر» ورسمها بقلمه الرّشيق، ترجم كتاب «الملك إدريس عاهل ليبيا. حياته وعصره» الذي كتبه الإنجليزي Eric Armar Vully de Candole، وصدرت الترجمة في طبعتين سنة 1989م – 1990م، وظلت ترجماته إلى العربية تتسم بروح تحمل نكهة خاصة تختلف كثيرًا عن الترجمات التقليدية الجامدة.. تخرج ابن طرابلس أسعد أحمد المسعودي من قسم اللغة الإنجليزية الدفعة الثالثة منها عام 1961م، وكان فنانًا ذواقًا يتسم بالخط الجميل والتعامل الراقي، وبحكم موهبته في الخط عُين أثناء الدراسة الثانوية بمدرسة «التوريللي» خطاطاً بالديوان الملكي لكتابة البراءات، وبعض المراسيم الملكية إلى جانب تعاونه مع بعض المؤسسات الحكومية كمؤسسة «الخطوط الجوية للمملكة الليبية» لكتابة ما تحتاجه من خطوط وشعارات، ونقش وكتب اللوحات التذكارية داخل ضريح عمر المختار في بنغازي، وصمم شعار الجامعة الليبية التي عمل مسجلاً عامًا لفرعها في طرابلس عندما انتقل إليها في السبعينيات، وصمَّم شعار الخطوط الجوية الملكية الليبية، إضافة إلى أنه تولى كتابة خطوط الصفحات الأولى لبعض الصحف، والكثير من شهادات التخرج والبراءة والمراسيم الملكية، وتقلَّد عدة مناصب مختلفة منها ممثلاً لليبيا في منظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة UNESCO، ومثّل ليبيا في عدة مؤتمرات دولية قبل أن يُحال للتقاعد..!.تنقل ما بين مدينتي درنة وبنغازي في طفولته وشبابه، ثم انتقل إلى مدينة طرابلس وهناك تزوج واستقر، أبناؤه الدكاترة أحمد، وأنيس، وأريج، وأروى وأرام وأصال، وشقيقه الأكبر الصحفي والكاتب الوطني فاضل المسعودي الذي وقف معه النيهوم وقفات لا تنسى بكل شجاعة في ظروف صعبة جدًا، لأن هذا الشهم لم ينسَ أصدقاؤه قط.
أما المفكر الصادق رجب عبدالرحمن النيهوم فقد وُلِدَ في مدينة بنغازي عام 1937م، عاش وترعرع في سوق «الحشيش»؛ حيث مولد الفكر والأدب، ومخاض السياسة، الذي كان لبنغازي بمثابة القلب من الجسد، فقد كان مهد الكلمة ووجود الكتَّاب والأدباء والصحفيين والمعلمين؛ سوق الحشيش ميدان لبيع الخضراوات في المدينة القديمة ببنغازي، سميتْ تلك البقعة من المدينة القديمة به، وقد شهد هذا الميدان بروز عديد المفكرين والكتَّاب والأدباء والمثقفين والمعلمين والساسة والفنانين، ورغم صغر سنه تجاوز بقراءاته وثقافته أفكار الكثيرين من الذين اصطدموا به في نقطة عدم الفهم، لقد عاش روح سوق «الحشيش»، وهناك توجد أثاره حيث نقع «فرسان بلا معركة»، كان قطعة من جيل يحلم ويبحث عن لقمة خبز هانئة، عن دفء واطمئنان، عن كتاب عن أجوبة لأسئلة معلقة في الهواء، عن قمر متوهج جنوب السماء، ودائمًا كان هناك شوق للمعرفة والتحصيل، نشأ تحت مظلة ثقافة ومعرفة الكتاب، وحمل كتاب الله بعد أن درسه على يد الفقهاء الجهابذة مناهل العلم والمصابيح المنيرة ببنغازي، وأصحاب الفتوى بها من بينهم الفقيه، والعلامة الشيخ محمد السوداني رحمه الله في جامع سيدي علي الوحيشي صحبة صديقه الكاتب خليفة الفاخري «الجانقي»، وكان واحدًا من رواد مجلسهم التعليمي أيضًا بمربوعة أحد أعيان المدينة وقبيلة الشويخات، وهو الحاج الأستاذ أبوبكر السوداني ابن الفقيه والعلامة الشيخ محمد السوداني بشارع «البعجة».
تعد هذه المربوعة أول مؤسسة تعليمية من نوعها في ذلك الحين مع مكتبة تحمل من العلوم الكثير، ولا تزال مفتوحة لروادها إلى الآن بمنطقة سيدي يونس بمدينة بنغازي. تولدتْ لديه نقاط الاصطدام، وحدث التأثر بالقراءات والثقافات والأفكار وما كان يعتري العالم من أحداث مختلفة، من تلك الظروف انطلق النيهوم وجيله يقتحمون المجاهل، ويحاولون التنوير وتحكيم العقل والنظر إلى دين الله القويم، بأنه رسالة الحياة الرحبة، وأنه منهج ينظم سلوك البشر دون تعصب، أو انغلاق، ويهذب تلك الحياة ليبقى على الدوام مثلاً رائعًا لمعاني الخير والحرية والإنسانية.
درس جميع مراحل التعليم في بنغازي إلى أن انتقل للجامعة الليبية، لكنه أختلف عن أصدقائه في التخصص، فقد درس اللغة العربية بكلية الآداب والتربية، في الدفعة الثالثة منها عام 1961م، واختير معيدًا، ثم أُرسل للدراسة في المانيا أولاً، درس العلوم الجامعية في جامعة القاهرة، واعد أطروحة الدكتوراه في «الأديان المقارنة» بإشراف الدكتوراه «بنت الشاطيء»، إلاَّ أن الجامعة ردَّتْ الأطروحة بحجّة أنها معادية للإسلام، انتقل بعدها إلى ألمانيا، وأتم أطروحته في جامعة ميونيخ بإشراف مجموعة من المستشرقين الألمان، ونال الدكتوراه بامتياز، بعد ألمانيا تابع دراسته في جامعة Arizona في الولايات المتحدة سنتين.
كتب لصحيفة )الحقيقة( الليبية، ونشر أول مقالاته )هذه تجربتي أنا( مع بداية الصدور اليومي للصحيفة، وفي كل يوم سبت كانت له مقالة، ووصلت شهرته ذروتها في العام 1964م، وكان الكل يتلقف نسخته من الصحيفة .. تزوج عام 1966م من زوجته الأولى الفنلندية ورُزق منها بولده )كريم وابنته أمينة(، وكان وقتها مستقرًا في «هلسنكي» عاصمة فنلندا، ودرَّس مادة )الأديان المقارنة( كأستاذ مساعد بقسم الدراسات الشرقية بجامعة هلسنكي من عام 1968م إلى 1972م؛ ثم انتقل للإقامة في جنيف عام 1976م، وتزوج للمرة الثانية من السيدة «أوديت حنا» الفلسطينية الأصل، وأسس )دار التراث(، ثم )دار المختار(، وأصدر سلسلة من الموسوعات العربية أهمها )تاريخنا(، و)بهجة المعرفة(، و)السلاح(، عمل أستاذًا محاضرًا في الأديان المقارنة في جامعة جنيف حتى وفاته في شهر نوفمبر 1994م.
)الثلاثة أصدقاء( اتفقوا في أشياء كثيرة في دنياهم حتى في الوفاة أيضًا، )الثلاثة أصدقاء( اجتمعوا في الشهر الذي جمعهم لكن هذه المرة في رحلة الدار الآخرة، حيث رحلوا عن هذه الدنيا في الشهر ذاته، وسخَّر الله لهم الرحيل عنها في شهر واحد.
)الثلاثة أصدقاء( اختارهم الله أن يرحلوا عنا في نهاية النصف الأول من شهر نوفمبر، الشهر الذي تَشُقَهُ المحاريث، وتخترق باطن الأرض مع هطول الغيث النافع. لقد اتفقوا في الرحيل عن دنيانا في شهر نوفمبر، حيث يرحل البجع، ويهاجر السنونو إلى أماكن قصية، وتخترق المحاريث الابعاد غب المطر وتسود السموات ثم ينشق بطنها ليحتضن الثلاثة أصدقاء، ويغمر الحزن العالم بلا انقطاع.
كان أول المغادرين الصادق رجب النيهوم الذي توفي في مدينة جنيف يوم 15 نوفمبر 1994م، ودُفن بمسقط رأسه في مدينة بنغازي يوم 20 نوفمبر 1994م.
الثاني كان محمد حسين القزيري توفي صباح يوم 15 نوفمبر، ودفن يوم 21 نوفمبر 2007 في مدينة مانشستر.
الثالث أسعد احمد المسعودِي توفى ودفن صباح يوم الجمعة 12 نوفمبر 2010م بمدينة طرابلس.
رحمة الله عليهم جميعًا في ذكراهم.
كامل حبي ومودتي لأستاذنا الفاضل سالم حسين الكبتي.