ما تمر به ليبيا من سياسات اقتصادية متخبطة، وخاصة تلك المتعلقة برفع الدعم عن المحروقات، يمثل نموذجا لتحديات اقتصادية معقدة تمتزج فيها اختلالات هيكلية وتراكمات فساد طويل الأمد. وبالتالي يمكن تحليل الوضع على عدة مستويات: فيما يلي
أولاً- الفجوة_بين_الإنفاق_العام_والموارد_المتاحة: يتمثل أحد العوامل الأساسية التي تساهم في الأزمة الاقتصادية في، إنفاق الحكومة الكبير على القطاعات غير الإنتاجية، وعلى زيادة رفاهية المسؤولين، بينما يفتقر المواطن إلى الفوائد الحقيقية من هذه السياسات. الإنفاق على مشاريع تنموية وهمية أو على أوجه الفساد يعكس أزمة هيكلية في وضع موازنة الدولة، خصوصا في ظل غياب الشفافية والمراجعة الفعالة للإنفاق الحكومي.إن التمويل العشوائي للموازنة عبر طباعة النقود يؤدي إلى تضخم مفرط، كما يظهر في ارتفاع قاعدة النقد من 60 مليار د.ل في 2011 إلى 175 مليار د.ل في 2024، مما يزيد من الضغط على العملة المحلية ويؤدي إلى تدهور القدرة الشرائية للمواطنين.
ثانيا- رفع_الدعم_عن_السلع_الأساسية وتأثيره_على_المعيشة: رفع الدعم عن السلع الأساسية في عام 2016 ثم محاولة رفعه عن المحروقات الان، يضع عبئا إضافيا على المواطن الليبي، خصوصا في ظل تدني مستويات الدخل وارتفاع معدلات الفقر. ليبيا تتمتع بموارد ضخمة من النفط والغاز وغيرها من الموارد الطبيعية، لكن السياسة الاقتصادية الحالية تقتصر بشكل كبير على تصدير هذه الموارد كخام دون استفادة حقيقية منها في تحسين الوضع الاقتصادي الداخلي. الدعم الموجه إلى المحروقات كان يشكل أحد أسس حماية القدرة الشرائية للمواطن، ورفع هذا الدعم دون بدائل فاعلة يعكس خللاً في إدارة السياسات الاجتماعية.
من ناحية أخرى، فإن توصيات صندوق النقد الدولي التي تدفع نحو رفع الدعم تأتي في سياق تخفيض العجز في الموازنة العامة للدولة، ولكن في حالة ليبيا، حيث لا تعاني من عجز كبير ولا من قروض خارجية، يبدو أن هذه السياسات تتبع طريقا خاطئا يعزز الفساد ولا يحل الأزمة. استخدام الأموال التي يتم توفيرها من رفع الدعم لتمويل العجز العشوائي أو تمويل الفساد في القطاعات الأخرى، مثل الدفاع والكهرباء، يؤدي إلى تعميق الأزمة وليس حلها.
ثالثاً- الفساد_وانعدام_الشفافية: الفساد هو أحد أكبر العوامل التي تقف خلف تدهور الوضع الاقتصادي في ليبيا. إن توزيع الأموال العامة بشكل عشوائي على القطاعات غير الفعالة، مع انعدام الرقابة الفعالة على استخدام هذه الأموال، يزيد من تعقيد الوضع. على سبيل المثال، إقرار ميزانية مستقبلية ضخمة لوزارة الدفاع «6.2 مليار د.ل كما ورد في تقرير الديوان 2023» في وقت تشهد فيه الدولة تحديات اجتماعية واقتصادية هائلة، يثير تساؤلات حول أولويات الحكومة وآلية تخصيص الأموال. بينما يحتاج الشعب إلى تحسين القطاعات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم، يتم التركيز على قطاع الدفاع الذي لا يسهم بشكل مباشر في تحسين الحياة اليومية للمواطنين.
رابعاً- غياب_القوانين_والموازنة_العامة_الفعالة: إن غياب قوانين واضحة للموازنة العامة وغياب الشفافية في الإنفاق الحكومي يعكسان عدم استقرار مالي وإداري. في ظل غياب الرقابة الفعالة، تذهب أموال الدولة إلى جيوب فئات متنفذة بينما يعاني الشعب من الفقر والبطالة. إن هيمنة السوق السوداء على تحديد أسعار الصرف المحلية، بالتوازي مع السياسات النقدية المتضاربة مثل تخفيض قيمة العملة بشكل غير مدروس، يساهم في استمرار الأزمة الاقتصادية ويزيد من الفجوة بين الحكومة والمواطن.
خامساً- الاختلال_بين_الإمكانات_الاقتصادية_والسياسات_المتبعة: ليبيا ليست بحاجة إلى حلول اقتصادية تستند إلى رفع الدعم والتقشف. فمع احتياطيات ضخمة تقدر بـ90 مليار دولار واستثمارات تقدر بحوالي 70 مليار دولار وارصد مجمدة بنحو 200 مليار دولار، كان من الممكن استخدام هذه الأموال في تمويل مشاريع تنموية حقيقية، مثل تحسين البنية التحتية، دعم القطاعات الإنتاجية، وتنمية الموارد البشرية. في ظل هذه الإمكانات الهائلة، كانت سياسة رفع الدعم عن السلع الاساسيىة في عام 2016 ثم محاولة تكرارها بالمحروقات في 2024 تعكس غيابًا لرؤية اقتصادية استراتيجية تهدف إلى استغلال الموارد الطبيعية في تعزيز الاقتصاد الداخلي وتنويع مصادر الدخل.
سادساً- استمرار_سياسة_الهدر_والمبالغة_في_الإنفاق: تكرار عمليات منح موازنات ضخمة لقطاعات غير فعالة، مثل وزارة الدفاع وشركة الكهرباء العامة، يعكس انعدام الوعي بأهمية استثمار الموارد في تطوير القطاعات الإنتاجية والخدمية التي تعود بالنفع المباشر على المواطن. الإنفاق الحكومي على مشاريع ترفيهية ومسؤولين يشبعون احتياجاتهم من خلال ميزانيات ضخمة لا يتماشى مع احتياجات الشعب المعيشية.
الخلاصة : إن سياسة رفع الدعم عن المحروقات في ليبيا، في ظل ما ذكر آنفا من سياسات اقتصادية، هي سياسة مدمرة ولا تستند إلى أسس اقتصادية سليمة. بدلاً من الاقتراض الخارجي أو الاقتراض المحلي، يمكن لحكومة ليبيا أن تستخدم احتياطياتها الهائلة واستثماراتها الضخمة لدعم الاقتصاد المحلي وتنفيذ إصلاحات هيكلية. في الوقت نفسه، يتعين على الحكومة أن تعمل على تقليل الفساد وتعزيز الشفافية في إدارة الأموال العامة، بالإضافة إلى تقوية قطاعات الصحة والتعليم والإنتاج المحلي كأولوية بدلًا من تكريس الأموال للإنفاق الحكومي المفرط. في النهاية، ليبيا بحاجة إلى تحول جذري في سياستها الاقتصادية، وتحقيق تنمية حقيقية قائمة على العدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة بدلًا من الحلول السطحية التي تضر بالمواطنين الآن وبمستقبل الأجيال القادمة.