فنون

بدر.. يربط هوية المكان والزمان عبر تركواز

محمد الشركسي

كان‭ ‬ليَّ‭ ‬بالأمس‭ ‬زيارةٌ‭ ‬إلى‭ ‬معرض‭ ‬الفنان‭ ‬التشكيلي‭ ‬عبدالقادر‭ ‬بدر‭ ‬في‭ ‬براح‭ ‬للثقافة‭ ‬والفنون‭ ‬Barah Culture‭ & ‬Arts‭  ‬الذي‭ ‬شاهدتُ‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬ارتقاءً‭ ‬وتطورًا‭ ‬واضحين‭ ‬في‭ ‬أعماله‭ ‬على‭ ‬مستواه‭ ‬الخاص‭ ‬وعلى‭ ‬مستوى‭ ‬الحركة‭ ‬التشكيلية‭ ‬الليبية‭ ‬والعربية‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭. ‬

وفي‭ ‬محاولة‭ ‬متواضعة‭ ‬مني‭ ‬لقراءة‭ ‬جزءٍ‭ ‬من‭ ‬أعماله‭ ‬التي‭ ‬أراها‭ ‬أعمالًا‭ ‬تتجاوز‭ ‬المحلية‭.‬

عبدالقادر‭ ‬يجمعُ‭ ‬أطرافَ‭ ‬المدينة‭ ‬الليبية‭ ‬والعربية‭ ‬في‭ ‬لوحة‭ ‬واحدة؛‭ ‬فقوارب‭ ‬المتوسط‭ ‬بمختلف‭ ‬أشكالها‭ ‬تسبح‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬لوحاته‭ ‬مع‭ ‬أبواب‭ ‬مدنها‭ ‬القديمة‭ ‬ونخيلها‭ ‬وألوانها‭ ‬الحارة،‭ ‬فهو‭ ‬ابن‭ ‬مدينة‭ ‬بنغازي‭ ‬الساحلية‭ ‬مدينة‭ ‬الشمس‭ ‬وقوارب‭ ‬الصيد،‭ ‬والأبواب‭ ‬العتيقة،‭ ‬مثلها‭ ‬كمثل‭ ‬باقي‭ ‬مدن‭ ‬المتوسط‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬والجزائر،‭ ‬والمغرب،‭ ‬ومصر‭ ‬،ولبنان‭ ‬وغيرها‭ ‬كأنه‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يذكّر‭ ‬المشاهدَ‭ ‬بأهمية‭ ‬ربط‭ ‬الهوية‭ ‬الليبية‭ ‬المغاربية‭ ‬العربية‭ ‬بمدنها‭ ‬وتراثها،‭ ‬فالملاحظ‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬أعمال‭ ‬بدر‭ ‬هو‭ ‬ربط‭ ‬مدينته‭ ‬بنغازي‭ ‬بأربعة‭ ‬محاور‭.‬

الأول‭:‬‭ ‬تأكيد‭ ‬هويته‭ ‬الليبية‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬مسقط‭ ‬رأسه‭ ‬بنغازي‭ ‬متمثلة‭ ‬في‭ ‬قوارب‭ ‬الشابي،‭ ‬والصابري،‭ ‬وأبواب‭ ‬‮«‬بوخوخة‮»‬‭ ‬خريبيش‭ ‬وسوق‭ ‬الحشيش‭ ‬وحوت‭ ‬القاجوج‭ ‬والتريليا،‭ ‬والبوحوام‭ ‬‮«‬النورس‮»‬‭.‬

ثانيًا‭:‬‭ ‬ربط‭ ‬بنغازي‭ ‬بمدن‭ ‬الساحل‭ ‬العربي‭ ‬المغاربي‭ ‬المتشابهة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬بقواربها‭ ‬ومناخها،‭ ‬وبيوتها‭ ‬العتيقة‭ ‬في‭ ‬تونس،‭ ‬والجزائر،‭ ‬والمغرب‭ ‬وغيرها‭.‬

ثالثًا‭:‬‭ ‬ربط‭ ‬بنغازي‭ ‬بمدن‭ ‬الجنوب‭ ‬الليبي‭ ‬والعربي،‭ ‬فملاحظة‭ ‬إضافة‭ ‬النخيل‭ ‬مع‭ ‬كتل‭ ‬لونية‭ ‬تشبة‭ ‬المساكن‭ ‬توحي‭ ‬ببيوت‭ ‬غدامس،‭ ‬وسبها،‭ ‬والواحات،‭ ‬وتيزي‭ ‬وأوزو‭  ‬وغيرها،‭ ‬فربط‭ ‬السمك‭ ‬بالنخيل‭ ‬في‭ ‬اللوحة‭ ‬نفسها‭ ‬هو‭ ‬رمزيةٌ‭ ‬مهمة‭ ‬لربط‭ ‬تفاصيل‭ ‬هوية‭ ‬المكان،‭ ‬والزمان‭ ‬مع‭ ‬تداخل‭ ‬لون‭ ‬الرمال‭ ‬الحارة‭ ‬بالسماء‭ ‬الزرقاء‭ ‬و‭ ‬البحر‭. ‬

رابعًا‭:‬‭ ‬وضع‭ ‬المنارة‭ ‬في‭ ‬مكانها‭ ‬المرتفع‭ ‬توحي‭ ‬وكأنها‭ ‬شاهد‭ ‬على‭ ‬عالمية‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬المتوسطية‭ ‬البسيطة،‭ ‬فالمنارات‭ ‬رمزية‭ ‬تجمع‭ ‬كل‭ ‬مدن‭ ‬الساحل‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬وهي‭ ‬رمزية‭ ‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬الآخر‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬البحر‭..‬

‭)‬تركواز‭(‬‭ ‬كان‭ ‬اسم‭ ‬المعرض،‭ ‬و‭ ‬أتصور‭ ‬انه‭ ‬مستوحى‭ ‬من‭ ‬لون‭ ‬سماء،‭ ‬وماء‭ ‬البحر‭ ‬في‭ ‬المتوسط،‭ ‬ولكن‭ )‬هوية‭ ‬التركواز‭( ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يبحث‭ ‬عنه‭ ‬عبدالقادر‭ ‬بدر‭ ‬حسب‭ ‬قرأتي‭ ‬المتواضعة،‭ ‬فالخطاب‭ ‬البصري‭ ‬عند‭ ‬بدر‭ ‬هو‭ ‬غوصٌ‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬الهوية‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬فهم‭  ‬هوية‭ ‬المكان‭ ‬والزمان،‭ ‬فهو‭ ‬يربط‭ ‬نفسه‭ ‬بالمكان‭ ‬والبيئة‭ ‬التي‭ ‬تربى‭ ‬فيها‭ ‬والتي‭ ‬منها‭ ‬ينطلق‭ ‬إلى‭ ‬جغرافيات‭ ‬متعدَّدة‭ ‬متخذًا‭ ‬بيئته‭ ‬كميناء‭ ‬يركن‭ ‬إليها‭ ‬متى‭ ‬ما‭ ‬أراد،‭ ‬وقد‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬نقل‭ ‬ذلك‭ ‬الشعور‭ ‬حسب‭ ‬فهمي‭ ‬المتواضع،‭ ‬أما‭ ‬هوية‭ ‬الزمان‭ ‬لديها‭ ‬مكانة‭ ‬متمثلة‭ ‬في‭ ‬رمزية‭ ‬تلك‭ ‬الأبواب‭ ‬القديمة‭ ‬وأشجار‭ ‬النخيل‭ ‬المتجذرة‭ ‬في‭ ‬الأرض‭.‬

اعتمد‭ ‬بدر‭ ‬على‭ ‬ألوان‭ ‬الأكريلك‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أعماله‭ ‬تقريبًا‭ ‬مع‭ ‬استخدام‭ ‬مجموعة‭ ‬لوحات‭ ‬ذات‭ ‬أحجام‭ ‬كبيرة‭ ‬جدًا‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬مع‭ ‬استخدام‭ ‬اللون‭ ‬الأزرق‭ ‬وتدرجاته‭ ‬والترابيات‭..‬

كما‭ ‬استخدم‭ ‬مواد‭ ‬مختلفة‭ ‬مع‭ ‬ملاحظة‭ ‬زيادة‭ ‬الكتل‭ ‬اللونية‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬أعماله‭ ‬الكبيرة‭ ‬الحجم‭… ‬

يعد‭ ‬بدر‭ ‬أحد‭ ‬فناني‭ ‬ليبيا‭ ‬التشكليين‭ ‬المهمين‭ ‬خصوصًا‭ ‬فيما‭ ‬يعرف‭ ‬بالتجريد‭ ‬التعبيري،‭ ‬وهي‭ ‬مدرسة‭ ‬ظهرتْ‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬بعد‭ ‬الانطباعية،‭ ‬ومازالت‭ ‬مستمرة‭.‬

وتبقى‭ ‬كل‭ ‬قراءة‭ ‬لعمل‭ ‬فني‭ ‬هي‭ ‬اجتهادٌ‭ ‬شخصي‭ ‬قابل‭ ‬لكل‭ ‬التفاسير‭ ‬كل‭ ‬حسب‭ ‬فهمه‭.‬

وقد‭ ‬ترك‭ ‬لنا‭ ‬عبدالقادر‭ ‬بدر‭ ‬قارورةً‭ ‬مغلقة‭ ‬في‭ ‬قارب‭ ‬كرمزية‭ ‬تفسيرية‭ ‬لأسرار‭  ‬تجربته‭ ‬التي‭ ‬نحترمها‭ ‬ونفتخر‭ ‬بها‭… ‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى