
تبنّت فرنسا مؤتمراً خاصاً بسوريا على مستوى دولي محددةً المشاركة به في الدول المانحة، أي التي ستموِّل مشاريع الإعمار، لما حلَّ بسوريا من الخراب الناتج عن الصراع المسلح الذي شهدته في خضم أحداث الربيع العربي مع مطلع العقد الثاني من هذا القرن، وكان مسرحه أكثر من قطر عربي وحاكم شمولي كان آخر من سقط فيه بشار الأسد بمغادرته سوريا في جنح الليل جواً في اتجاه موسكو التي أعلنت وجوده بها بعد بضع ساعات استمرت يوماً وبعض الأيام وإعلان الرئيس الروسي بوتن وضمن تسوية لم تُكشَف تفاصيلها حتى الآن، وحراك غير عادي بين المتصارعين على الكعكة السورية التي بدأ استواؤها منذ تقسيم تركة الرجل المريض كما هو المصطلح العالمي حول نهاية العرش التركي في الثلث الأول من القرن الماضي حين لم يغادر سوريا إلا بعد سلخ لواء الاسكندرون، فَتحِلُّ فرنسا بسوريا ولبنان مُبشِّرةً بالنظام الجمهوري في مقابل العروش التي مُنِحَت لأبناء شريف مكة في العراق والأردن وفوز عبد العزيز آل سعود بالجزيرة العربية ومعها بقية المشيخات وإن أُطلِقَ عليها أكثر من تسمية، ففي تلك الظروف استطاعت فرنسا أن تحقق مستوى من الوجود للغتها كي تتجاوز بها لغة العمل إلى لغة التفكير كما شهدت عديد الأعمال الثقافية التي حوتها الكتب التي صدرت في تلك الأيام عندما أنجزها كُتَّابٌ مرموقون ودور نشر ترجمت لاحقاً كنوز الفكر العالمي الذي كثيراً ما ظن الكثيرون أنه قد نقل عن لغته في حين هو قد وجد طريقه من اللغة الفرنسية التي مثلت الجسر القوي للأدب الروسي وربما الألماني أيضاً عندما مثلت دمشق ودور نشرها بل وصُحفها أيضاً مناخاً فكرياً متفرداً ولم يحل دون تطوره ونموِّه وبالتالي انحساره وأخيراً كبوَته سوى التخريب السياسي المتعمد مرة، وعدم دراية مرة أخرى.
هي مراحلٌ ما زالت على الأرجح حاضرة في الذاكرة الفرنسية التي دفعت فرنسا اليوم إلى المسارعة بعقد مؤتمرها المتعلق بسوريا، لبحث إعادة إعمارها ودعوة الدول المانحة لها كي تدلي بما لديها حول سوريا من حيث الإعمار والعلاج واستئناف الخدمات من صحية وتعليمية ودفاعية، وما تستوجبه من الإفراج عن أرصدتها وتنشيط مجتمعها المدني وإشراك أبنائها في تصريف شؤونهم، وبالضرورة عدم السماح لمن قد يتخذون مما قدموا من المساعدة في سنوات المحنة، من اتخاذ تلك المساعدة حجة لفرض وصاية جديدة. وما كان لفرنسا أن تبادر بنشاطها هذا لو لم تلاحظ ما بدأ به الآخرون وبالذات دول الحدود والعربية منها، سواء من وقفَ مع الأسد وحال دون سقوطه السريع كما حدث لغيره من الذين عصف بهم الربيع العربي، أو من استطاع أن يحكم هذه النهاية وتحديد نوعية البديل أو من يدرك أن (البراقماتية) خير من يفلح في انتقاء المصالح التي تعلو كل الصداقات وحتى الشعارات، خاصة عندما يكون اللاجؤون بالآلاف كما هو الحال بأولئك الموجودين بباريس ممن سمح لهم بزيارة بلدهم دون أن يفقدوا أماكنهم، فهذا التحرك الفرنسي إذاً له ما بعده كما كان له ما قبله، أما الحديث عن أموال الأسد فليس إلا دعوة للجميع أن يتحملوا مسؤوليتهم ولا سيما روسيا الشعب والرئيس والتاريخ.