
الدينار ..
يعد سعر الصرف من أهم المؤشرات الاقتصادية التي تعكس استقرار الاقتصاد الوطني، ويؤثر بشكل مباشر على حياة المواطنين اليومية، خاصة في الدول التي تعتمد على الاستيراد لتلبية معظم حاجياتها الأساسية في ليبيا، التي تمر منذ سنوات بتحديات اقتصادية وسياسية وأمنية، شهد الدينار الليبي انخفاضًا ملحوظًا مقابل العملات الأجنبية، وهو ما انعكس سلبا على الوضع المعيشي للمواطنين، وأثر بشكل كبير على ملامح الاقتصاد الكلي.
قصة انهيار نقدي بلا هوادة
على امتداد أكثر من عقد، ظلت ليبيا تعاني من اضطراب اقتصادي حاد انعكس بشكل مباشر على قيمة الدينار الليبي أمام الدولار الأمريكي، العملة الأكثر تداولًا في التجارة الدولية. بدأت قصة انهيار الدينار الليبي وارتفاع الدولار منذ لحظة الانقسام السياسي والمؤسسي الذي أعقب ثورة فبراير 2011، إلا أن جذور الأزمة أعمق وأقدم، تعود إلى تراكمات اقتصادية وإدارية ونقدية بدأت بوادرها في العقد الأول من الألفية الجديدة.
الدينار قبل العاصفة
في مطلع الألفينات، كان الدينار الليبي مستقرًا نسبيًا أمام الدولار، حيث بلغ السعر الرسمي في عام 2009 نحو 1.26 دينار/دولار. وكان الاحتياطي النقدي في مصرف ليبيا المركزي قد تجاوز حينها 140 مليار دينار ليبي، مع وفرة في النقد الأجنبي نتيجة ارتفاع أسعار النفط عالميًا.
لكن غياب الإصلاحات البنيوية، وانعدام الشفافية، والتضخم المقنع الذي خلقه الدعم السلعي وسوء إدارة الموارد، كانت عوامل تنذر باقتراب أزمة عميقة. كان كل شيء مؤجلًا، إلى أن وقعت ثورة 17 فبراير 2011، فخرج الاقتصاد الليبي من غرفته المعقمة إلى الشارع المضطرب.
ثورة بلا إدارة… ودولار بلا سقف
بعد إسقاط نظام القذافي، ورغم توفر احتياطي نقدي قوي، بدأت أولى مظاهر الانهيار عندما تم تجميد الأصول الليبية في الخارج، وتوقفت الصادرات النفطية لعدة أشهر. انخفض الإنتاج من 1.6 مليون برميل/يوميًا إلى أقل من 300 ألف برميل في بعض الأشهر من عام 2011.
أدى ذلك إلى تراجع الإيرادات العامة وتزايد الإنفاق الحكومي، في ظل غياب سلطة مالية موحدة. لم يمضِ وقت طويل حتى بدأت السوق الموازية تبتلع السوق الرسمية. ففي عام 2013، ارتفع سعر الدولار في السوق السوداء إلى 2.5 دينار، وفي أواخر 2014، بلغ 3.8 دينار، أي بزيادة تفوق 200% خلال أقل من ثلاث سنوات.
الانقسام السياسي والمالي الدولار يتوحش
بدأ عام 2015 بانقسام مؤسسات الدولة إلى شطرين: حكومة في طرابلس، وأخرى في البيضاء، وكل منهما تدّعي الشرعية. وأدى هذا الانقسام إلى نشوب صراع بين مصرفين مركزيين، أحدهما يتبع طرابلس والآخر البيضاء، ما أحدث حالة فوضى في السياسة النقدية.
تم طبع أكثر من 30 مليار دينار من العملة دون تغطية حقيقية، وهو ما ساهم في زيادة التضخم وانخفاض قيمة الدينار الليبي. وبلغ سعر صرف الدولار في السوق الموازية عام 2016 حوالي 6.3 دينار.
التدخلات المرتبكة
في محاولة لكبح هذا الانهيار، أطلق مصرف ليبيا المركزي في طرابلس في يناير 2018 برنامج الإصلاح الاقتصادي، وتضمن فرض رسوم على بيع النقد الأجنبي بنسبة 183%، ما أدى إلى توحيد السعر الرسمي والسوق الموازية بشكل مؤقت عند 3.9 دينار/دولار.
ورغم أن هذه الخطوة ساهمت في تقليل الفجوة، فإنها لم تكن مستدامة، بسبب عدم مرافقتها بإجراءات هيكلية في الدعم والجباية، ولا في ضبط التهريب أو إنهاء اقتصاد الظل.
وفي يناير 2021، تم توحيد سعر الصرف رسميًا عند 4.48 دينار/دولار، وهي الخطوة التي لاقت ترحيبًا دوليًا ومحليًا، لكنها لم تصمد طويلاً، إذ بدأت السوق الموازية تنشط مجددًا في ظل غياب الرقابة واستمرار الانقسام المؤسسي.
الدولار اليوم و الواقع بالأرقام
اعتبارًا من النصف الثاني لعام 2024، تراوح سعر الدولار في السوق السوداء بين 5.5 إلى 6.2 دينار، مقابل السعر الرسمي الثابت عند 4.48 دينار. وتُقدَّر الخسائر السنوية الناتجة عن فارق السوق الموازية بأكثر من 4 مليار دينار ليبي سنويًا.
أما الاحتياطي النقدي، فقد استقر وفق بيانات مصرف ليبيا المركزي في طرابلس عند 79 مليار دولار بنهاية 2023، بزيادة طفيفة عن عام 2021، نتيجة ارتفاع أسعار النفط وتحسن الصادرات التي بلغت نحو 27 مليار دولار في 2023.
لكن هذا التحسن لم ينعكس على السوق الداخلية بسبب:
1. الاستيراد العشوائي.
2. التهريب المستمر للسلع المدعومة.
3. ارتفاع الطلب على الدولار في السوق غير الرسمية لتغطية التزامات تجارية غير قانونية.
4. استمرار عمليات الفساد المالي والتحويلات غير المشروعة.
إلغاء ضريبة الدولار
وهي خطوة تهدف لتقليل العبء على المواطن في ظل ارتفاع الأسعار، حيث كانت تفرض هذه الضريبة بنسبة %27 ثم تم تخفيضها، وأخيرا ألغيت بالكامل في سبتمبر 2024.
إعادة تقييم سعر الصرف
في أبريل 2025 ، خفض المصرف السعر الرسمي للدينار إلى 5.5677 دينار للدولار، في محاولة لموازنة العجز المالي والحد من استنزاف الاحتياطيات النقدية.
تشديد الرقابة على بيع العملة :
المصرف وضع ضوابط مشددة على الاعتمادات المستندية والتحويلات الخارجية للحد من التهريب وغسيل الأموال.
دعم الاحتياطي من العملة الأجنبية: من خلال إدارة عوائد النفط بطريقة أكثر مركزية وتنظيمًا، للحفاظ على استقرار السوق وتعزيز الثقة بالقطاع المالي.
محاولات إصلاح النظام المصرفي شملت جهودًا لزيادة الشفافية، تعزيز الشمول المالي وإطلاق منصات إلكترونية لمراقبة عمليات الصرف والتحويلات.
ما هي الحلول؟
أجمع خبراء الاقتصاد الليبي أن مشكلة ارتفاع الدولار لا تُحلّ بإجراءات نقدية فقط، بل تتطلب حلاً اقتصاديًا شاملاً يتضمن:
1. توحيد المؤسسات المالية، وعلى رأسها مصرف ليبيا المركزي، وهيئة الرقابة، وهيئة الجمارك.
2. إعادة هيكلة الدعم وتوجيهه إلى مستحقيه عبر برامج إلكترونية ذكية «بطاقة السلع المدعومة».
3. إطلاق منظومة إلكترونية موحدة للتحويلات الخارجية، وربطها بالمنشآت الاقتصادية المُرخصة فقط.
4. تشجيع التصدير وتحفيز الإنتاج المحلي، لتقليل الاعتماد على الواردات بالدولار.
5. رفع إنتاج النفط إلى أكثر من 1.6 مليون برميل يوميًا، وتثبيت الإيرادات المالية في صندوق استقرار اقتصادي مستقل.
6. وضع تشريعات لمكافحة غسيل الأموال وفرض الرقابة على حركة الدولار من قبل النيابة الاقتصادية.
الاقتصاد رهن السياسة
قصة الدولار في ليبيا ليست مجرد أزمة نقدية، بل مرآة لانهيار منظومة الدولة. فلا يمكن بناء اقتصاد مستقر بسعر صرف واقعي في ظل سلاح منفلت، ومؤسسات مزدوجة، وقرارات مرتجلة. تحتاج ليبيا إلى توافق سياسي يمهّد الطريق لإصلاح اقتصادي حقيقي، ويعيد للدينار مكانته، ويوقف نزيف الثقة من جيب المواطن.
تأثير انخفاض الدينار على المواطن الليبي انعكس انخفاض سعر صرف الدينار بشكل مباشر على المواطن الليبي من عدة نواح
ارتفاع الأسعار والتضخم
أدى انخفاض قيمة الدينار إلى ارتفاع كبير في أسعار السلع، وخاصة المستوردة، ما أرهق ميزانيات الأسر وقلل من قدرتهم على تلبية احتياجاتهم الأساسية، مثل الغذاء والدواء والملابس.
تراجع القدرة الشرائية
رغم أن الرواتب تصرف بالدينار، إلا أن الأسعار مرتبطة بالدولار، مما خلق فجوة كبيرة بين الدخل والنفقات خصوصًا للطبقات ذات الدخل المحدود.
من الحلول :
تشجيع التصدير وتحفيز الإنتاج المحلي
القصة ليست مجرد أزمة بل صورة في المرآة للسقوط
الرواتب بالدينار والاسعار بالدولار والفجوة تزداد اتساعاً.