
ذات صباح مشرق من يوم الجمعة، وفي دردشة رائعة جمعتني بصديقي سليمان عيسى أصيل مدينة يفرن الجميلة الواقعة على سفوح جبل نفوسة الغني بالكثير من معالم التراث الثقافي في ليبيا، وأثناء الدردشة تناولنا جماليات الوطن، ولوحاته الفنيّة الطبيعية الجميلة التي يجهلها حتى الكثير من أبنائه.
قال ليّ صديقي سليمان، بأنه يرغب بجولة داخل ربوع بلادنا لإظهار هذه اللوحات الطبيعية بكل ما تحتوي من كنوز وعراقة، وحييته على روحه الوطنية.
ولأني دائم التنقل في ربوع بلادي، ارتأيتُ بأن أستذكر بعضًا من هذه اللوحات الجميلة التي ازدانتْ بها بلادي، في محاولة لإظهار صور لوطن رائع، وهذه المرة من الجبل الأخضر المزدان بجمال الطبيعة، ففي ليبيا وبالتحديد في هذه البقعة الجميلة والتي يجهلها الكثير من أبناء الوطن، تكتسي الأرضُ في فصل الربيع بهذا اللون الزاهي من أزهار الربيع، مانحةً لكل من يزورها أمتع المناظر التي حباها الله بها، بطبيعة ساحرة ومتنوعة، متمثلة في تنوع غريب وجبال مختلفة من حيث الطبيعة والارتفاع، فأينما وضعت رجلكَ وجدت نفسك في إحدى جناتها، حيث السهول، والأودية، والجبال الخضراء بتنوعها في كل شيء.
ولمن لا يعرف ماسة ليبيا هذه اللوحة الفنيّة الطبيعية الجميلة، هي بلدة «مسّة» الرائعة، التي كانت لها مكانة كبيرة على مدى تاريخها، تقع في شرق ليبيا، وتبعد 10 كم عن مدينة البيضاء غربًا، وعن مدينة قوريني
بـ 25كم، وترتفع عن مستوى سطح البحر بــ 515 مترًا، بها آثار إغريقية، ورومانية، ومبنى الكنيسة القديمة، وتوجد بها عدة عيون من المياه العذبة أبرزها «عين مسّة»، وأشهرها «عين البويضة»، و«عين الخارقة»، وهي مياه تجري طوال العام، وتوجد في البلانج، وتحيط بها المزارع، خاصة مزارع العنب، وكانوا يقولون:
)عنب مسّة ما حد يمسه( أي عِنب مسّة لا أحد يلمسه، دلالة على الحفاظ عليه، لكنه استبدل بمنتوجات زراعية أخرى، حيث اتجه المزارعون لزراعة التفاح، ثم الطماطم، لأنه أكثر فائدةً تجارية بالنسبة لهم، وهذا حسب تفسيرهم.
نُقلت كرومها إلى بلاد الإغريق، عبر Balagra البيضاء الآن، ثم إلى العاصمة قوريني، قبل أن يتم تصديره عن طريق ميناء «أبولونيا» سوسة الآن.
وتعد مسّة، والمعروفة تاريخيًا بـ أرتميس Artmis من المستوطنات الريفية المهمة التي أسسها الإغريق في نهاية القرن السابع ق.م، وتتوافر فيها أغلب الشروط التي اعتمدها الإغريق لتأسيس المستوطنات الريفية، فهي مصدر مائي مستمر، وأراضٍ صالحة للزراعة، ومرفأ قريب للتواصل مع العالم، كما توجد بها ثاني أكبر المقابر، وتنتشر في محيطها المحاجر والمباني القديمة مثل المعابد، والحصون، والحمامات، والكنائس، والسدود وصهاريج المياه، والكثير من بقايا المباني التي تحتاج إلى التنقيب فيها من أجل معرفة هويتها، وترتبط بمرفأ يبعد عنها 15كم شمالاً من أجل الاتصال بمدن الليبية، وبلاد الإغريق، وارتبطت بعدد من الحصون التي تعود إلى الفترة الكلاسيكية لحماية هضبة قورينائية، ولكن للأسف في السنوات الأخيرة تم تدمير الكثير من هذه المواقع نتيجة لتقسيم المنطقة الأثرية وبيعها للمواطنين من قبل من يدعون بأنهم ملاك للأراضي، وآخر موقع عثر فيه على بقايا آثار كلاسيكية جنوبًا بالقرب من بلدة أسلطنة..وقد بينتْ الدراسات التي أجريتْ أهمية مستوطنة أرتميس الاقتصادية والدفاعية؛ لأنها تمثل الحد الفاصل بين المناطق التي استوطنها الإغريق، والسكان الليبيون، وتمثل ثقافة إغريقية خالصة لم تتأثر كثيرًا بالثقافة الرومانية، خاصة في بناء المقابر والمعابد.
يقول عالم الآثار والباحث والكاتب البروفيسور الامريكي Richard Norton مدير المعهد الأثري الأمريكي ومتحف Boston للفنون الجميلة والتنقيب عن الآثار:
عندما كنتُ في مدينة بنغازي، أخبروني بوجود آثار في بلدة تُسمّى مسّة، وصمَّمتُ على زيارة هذه البلدة المعروفة بآثارها، فقد حظيتْ باهتمام الرحّالة والمستكشفين، والعلماء والباحثين في مجال الآثار والكلاسيكيات، وذلك بسبب ما تحتفظ به من آثار، وتراث غني، وكانت أيضًا وجهة حقيقية لكلِّ الباحثين عن المغامرة والاستكشاف والبحث العلمي بشتى فروعه.
وتمَّ تنظيم بعثة أثرية عام 1910م للتنقيب برعاية المعهد الأثري الأمريكي، وكان Norton هو المشرف على هذه البعثة، ونشر تقاريره في النشرة التي كان يصدرها المعهد الأثري الأمريكي، ووثق الآثار التي شاهدها في صور فوتوغرافية، وقام أيضًا برسم مخططات، وخريطة توضيحية لأهم المعالم الأثرية، ويعدُّ هذا التقرير وثيقة مهمة جدًا لتلك المعالم، خاصة بعد أن تعرَّضت تلك الآثار لحوادث الاعتداء البشري، وكذلك من تجريف ومسح للأراضي الواقعة عليها.
توجد بها مقابر قديمة منحوتة في الصخور على جانب التل، وواد جميل وعميق يفتح نحو البحر مملوء بالأشجار، وعلى رأس الوادي يوجد صهريج قديم رائع تحت الأرض؛ حيث توجد المياه حتى في فصل الصيف الحار.
تقع بلدة «مسّة» القديمة على حافة الهضبة نفسها التي تقع عليها قوريني، والينبوع الرئيس يقع في تجويف، والماء يتدفق في اتجاه الجنوب، ولكن في اتجاه ليس ببعيد، حيث يتجه إلى الشمال، ثمَّ يتجه نحو البحر، وفيما يخص الآثار؛ هي عبارة عن كميات من الكتل المربعة، وآثار للمباني، وتقع معظم الآثار على الأرض العليا إلى الغرب والشمال والشرق من المنطقة، وهناك محاجر فيها العديد من المقابر الصخرية، وتوابيت كبيرة قائمة بذاتها ومقابر مبنية، ومنصات للمباني، لقد كانت مسّة فرعًا مهمًا من قوريني.
ومما لا شك فيه أنَّ آثار مسّة تعود إلى عصور مختلفة، وتُظهر طبيعة الصخور المنحوتة ونوع القوالب على بعض المقابر، فهذه البلدة إغريقية، وقد سُكِنَت على الأقل في وقت مبكر من القرن الرابع ق.م، المظهر العام للمكان يشبه إلى حد كبير قوريني، ومن الواضح أنه كان مكانًا مهمًا، ومرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بمدينة قوريني.