اجتماعي

مرعي وحكاياته

بقلم / مش ساكت

في‭ ‬ظهيرة‭ ‬هادئة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الظهيرات‭ ‬التي‭ ‬تمرّ‭ ‬على‭ ‬طرابلس‭ ‬كأنها‭ ‬تُشرب‭ ‬مثل‭ ‬شاي‭ ‬بائت،‭ ‬جلس‭ ‬مرعي‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬مكسور‭ ‬في‭ ‬مقهى‭ ‬شعبي،‭ ‬يحتسي‭ ‬قهوة‭ ‬تشبه‭ ‬مستقبله‭: ‬سوداء،‭ ‬مرة،‭ ‬وباردة‭. ‬كان‭ ‬يحدّق‭ ‬في‭ ‬شاشة‭ ‬هاتفه‭ ‬الذكي‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬ذكاءً‭ ‬من‭ ‬حظّه،‭ ‬يتنقّل‭ ‬بين‭ ‬‮«‬ستوريهات‮»‬‭ ‬الإنستغرام،‭ ‬وكلها‭ ‬تنطق‭ ‬بلغة‭ ‬واحدة‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬شامخة،‭ ‬لا‭ ‬أرضى‭ ‬بأقل‭ ‬من‭ ‬القمّم‭.‬

مرعي‭ ‬بالكاد‭ ‬عثر‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬بثلاث‭ ‬أرجل،‭ ‬يُحاول‭ ‬أن‭ ‬يتوازن‭ ‬عليه‭ ‬كما‭ ‬يتوازن‭ ‬بين‭ ‬قسط‭ ‬الإيجار‭ ‬وفاتورة‭ ‬الإنترنت‭. ‬ينظر‭ ‬لتلك‭ ‬الشامخات‭ ‬ويقول‭ ‬في‭ ‬سرّه‭: ‬أنا‭ ‬حتى‭ ‬سقف‭ ‬فوق‭ ‬راسي‭ ‬ما‭ ‬قدرت‭ ‬نبنيه،‭ ‬كيف‭ ‬نبني‭ ‬قمة؟‭ ‬هو‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يومًا‭ ‬ضد‭ ‬الطموح‭. ‬بالعكس،‭ ‬مرعي‭ ‬كان‭ ‬يحلم‭ ‬يبني‭ ‬طابقًا‭ ‬فوق‭ ‬بيت‭ ‬والده،‭ ‬لكن‭ ‬البلدية‭ ‬قالت‭ ‬له‭ ‬‮«‬ممنوع‮»‬،‭ ‬والحي‭ ‬قال‭ ‬له‭: ‬‮«‬عشوائي‮»‬،‭ ‬والمصرف‭ ‬قال‭ ‬له‭: ‬‮«‬هات‭ ‬كفيلك‭ ‬وورقة‭ ‬من‭ ‬النفوس‮»‬،‭ ‬والبنات‭ ‬قلن‭ ‬له‭: ‬‮«‬نبّيك‭ ‬تبنيلي‭ ‬مستقبلاً‮»‬‭ .. ‬وهو؟‭ ‬بالكاد‭ ‬قدر‭ ‬يبني‭ ‬علاقة‭ ‬مستقرة‭ ‬مع‭ ‬موظف‭ ‬الخدمة‭ ‬في‭ ‬المصرف،‭ ‬اللي‭ ‬يقوله‭ ‬كل‭ ‬مرة‭: ‬‮«‬النظام‭ ‬طايح،‭ ‬تعال‭ ‬بكري‮»‬‭ .. ‬أما‭ ‬الشامخات‭ ‬في‭ ‬ليبيا،‭ ‬فلهنّ‭ ‬قائمة‭ ‬مواصفات‭ ‬في‭ ‬شريك‭ ‬الحياة،‭ ‬تبدأ‭ ‬بـ‭ )‬مثقّف،‭ ‬وسيم،‭ ‬عنده‭ ‬فيزا،‭ ‬يفتح‭ ‬باب‭ ‬السيارة،‭ ‬يقرأ‭ ‬محمود‭ ‬درويش،‭ ‬ويحب‭ ‬الحيوانات‭(‬،‭ ‬وتنتهي‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬ويفهمني‭ ‬من‭ ‬نظرتي‮»‬‭.. ‬ومرعي؟‭ ‬بالكاد‭ ‬يفهم‭ ‬نفسه‭ ‬لما‭ ‬يطالع‭ ‬المرايا،‭ ‬ويشوف‭ ‬تحت‭ ‬عيونه‭ ‬خطوط‭ ‬الحياة‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬خطوط‭ ‬إنترنت‭ .. ‬مرة‭ ‬تجرأ‭ ‬وقال‭ ‬لإحداهن‭:  ‬‮«‬أنا‭ ‬نحبكِ‭ ‬ونبّي‭ ‬نعيش‭ ‬معاكِ‭ ‬على‭ ‬قدّنا‮»‬‭.. ‬فأجابته‭ ‬بعينٍ‭ ‬فيها‭ ‬خط‭ ‬‮«‬آيلاينر‭ ‬‮»‬‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مساحة‭ ‬ليبيا‭: ‬‭ ‬‮«‬أنا‭ ‬نبّي‭ ‬نعيش‭ ‬في‭ ‬شقة‭ ‬فيها‭ ‬إطلالة‭ ‬بحر،‭ ‬ونلبس‭ ‬براندات،‭ ‬ونصيف‭ ‬كل‭ ‬سنة‮»‬‭. ‬فسألها،‭ ‬وهو‭ ‬يشدّ‭ ‬في‭ ‬روحه‭: ‬‮«‬صيف‭ ‬وين؟‮»‬‭ ‬قالت‭ ‬له‭: ‬‮«‬مش‭ ‬مهم،‭ ‬المهم‭ ‬ما‭ ‬نعيش‭ ‬عيشة‭ ‬زمان‮»‬‭. ‬مرعي‭ ‬لم‭ ‬يغضب،‭ ‬بل‭ ‬تأمّل‭ ‬في‭ ‬قعر‭ ‬كوب‭ ‬القهوة‭ ‬وقال‭: ‬‮«‬يا‭ ‬ريت‭ ‬الكريمة‭ ‬اللي‭ ‬فوق‭ ‬قهوتي،‭ ‬كانت‭ ‬فوق‭ ‬حياتي‮»‬‭.. ‬ثم‭ ‬أضاف‭ ‬في‭ ‬نفسه‭: ‬‮«‬“الشموخ‭ ‬هذا،‭ ‬مش‭ ‬مبني‭ ‬على‭ ‬طموح‭ ‬ولا‭ ‬علم‭ ‬ولا‭ ‬كفاح،‭ ‬مبني‭ ‬على‭ ‬فلتر‭ ‬سناب‭ ‬شات‭ ‬وهاشتاق‭ ‬مستورد‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬فيها‭ ‬كهرباء‭ ‬24‭ ‬ساعة‭ .. ‬ليلة‭ ‬أخرى،‭ ‬حلم‭ ‬مرعي‭ ‬أنه‭ ‬تزوّج‭ ‬من‭ ‬واحدة‭ ‬‮«‬شامخة‮»‬‭. ‬طلبت‭ ‬منه‭ ‬جهازًا‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عن‭ ‬70‭ ‬ألف‭ ‬دينار،‭ ‬وأرادت‭ ‬عرسًا‭ ‬فيه‭ ‬نايلي‭ ‬وطرب‭ ‬أندلسي‭ ‬وفيديوغرافر‭ ‬خاص‭ ‬من‭ ‬تركيا‭. ‬في‭ ‬ليلة‭ ‬العرس،‭ ‬اكتشف‭ ‬أن‭ ‬والدها‭ ‬غارق‭ ‬في‭ ‬ديون،‭ ‬وأخوها‭ ‬مطلوب‭ ‬في‭ ‬قضايا،‭ ‬وجدّها‭ ‬رفض‭ ‬الحضور‭ ‬لأنه‭ ‬‮«‬ما‭ ‬يحبش‭ ‬الموسيقى‮»‬،‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يسمع‭ ‬أصلًا‭ .. ‬استفاق‭ ‬مرعي‭ ‬يتصبّب‭ ‬عرقًا،‭ ‬وهمس‭: ‬‮«‬والله‭ ‬لو‭ ‬نحب‭ ‬شجرة‭ ‬شامخة،‭ ‬أهون‭ ‬من‭ ‬نحب‭ ‬بنت‭ ‬شامخة‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬التيك‭ ‬توك‮»‬‭.. ‬وفي‭ ‬الصباح‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬المدينة‭ ‬تستيقظ‭ ‬على‭ ‬صوت‭ ‬مولد‭ ‬كهربائي،‭ ‬قالتْ‭ ‬له‭ ‬أمه‭:  ‬‮«‬يا‭ ‬وليدي،‭ ‬علاش‭ ‬ما‭ ‬تزوّجتش؟‮»‬

ابتسم‭ ‬مرعي‭ ‬وقال‭:  ‬‮«‬الشامخات‭ ‬يبنّين‭ ‬المستقبل،‭ ‬وأنا‭ ‬ما‭ ‬زلت‭ ‬نبني‭ ‬في‭ ‬حيطة‭ ‬المطبخ‮»‬‭.‬

ومع‭ ‬كل‭ ‬هذا،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مرعي‭ ‬ناقمًا‭. ‬لا‭ ‬حاقدًا‭ ‬ولا‭ ‬حاسدًا‭. ‬كان‭ ‬فقط‭ ‬ليبيًا‭ ‬حقيقيًا،‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬بلد‭ ‬يرفع‭ ‬شعار‭ ‬‮«‬كُن‭ ‬شامخًا‮»‬،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يوفّر‭ ‬لكَ‭ ‬حتى‭ ‬كيس‭ ‬إسمنت‭ ‬بالشهر،‭ ‬وفي‭ ‬بلد‭ ‬تُقاس‭ ‬فيه‭ ‬قيمة‭ ‬الإنسان‭ ‬بعدد‭ ‬متابعيه،‭ ‬لا‭ ‬بعدد‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬قرأها‭ ‬أو‭ ‬المرات‭ ‬التي‭ ‬صبر‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬انقطاع‭ ‬الكهرباء،‭ ‬قرّر‭ ‬مرعي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬صادقًا‭ ‬مع‭ ‬نفسه،‭ ‬لا‭ ‬شامخًا‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬الآخرين‭. ‬إحدى‭ ‬الشامخات‭ ‬قالتْ‭ ‬له‭ ‬ذات‭ ‬يوم،‭ ‬وهي‭ ‬ترتدي‭ ‬نظارة‭ ‬شمسية‭ ‬في‭ ‬الليل‭:  ‬‮«‬أنا‭ ‬أنتمي‭ ‬لرجال‭ ‬بمستوى‭ ‬معين‮»‬‭. ‬فردّ‭ ‬عليها،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يرفع‭ ‬عينه‭ ‬عن‭ ‬كوب‭ ‬القهوة‭: ‬‮«‬وأنا‭ ‬أنتمي‭ ‬لجيل‭ ‬قُطعتْ‭ ‬عليه‭ ‬الكهرباء‭ ‬خمس‭ ‬مرات‭ ‬في‭ ‬اليوم،‭ ‬وما‭ ‬زال‭ ‬حيًا‮»‬‭.‬

كان‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬أصبحتْ‭ ‬سباقًا‭ ‬نحو‭ ‬الوهم،‭ ‬وأن‭ ‬الطموح‭ ‬صار‭ ‬مربوطًا‭ ‬بعدد‭ ‬مرات‭ ‬السفر،‭ ‬لا‭ ‬بعدد‭ ‬التجارب‭. ‬أما‭ ‬مرعي،‭ ‬فكان‭ ‬يؤمن‭ ‬أن‭ ‬الرجولة‭ ‬لا‭ ‬تقاس‭ ‬بالبراند،‭ ‬بل‭ ‬بكم‭ ‬مرة‭ ‬قلت‭ ‬‮«‬لا‮»‬‭ ‬وأنت‭ ‬قادر‭ ‬تقول‭ ‬‮«‬نعم‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬النهاية،‭ ‬إذا‭ ‬صادفتْ‭ ‬يومًا‭ ‬فتاة‭ ‬تقول‭ ‬لك‭:‬

‮«‬أنا‭ ‬شامخة‮»‬،‭ ‬فلا‭ ‬تجادلها‭. ‬فقط‭ ‬امنحها‭ ‬مرآة‭… ‬الشموخ‭ ‬الحقيقي‭ ‬لا‭ ‬يُعلن،‭ ‬إنما‭ ‬يُعاش‭.‬

عبير‭  ‬علي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى