
الصحراء الليبية غنية بالكثير من معالم التراث الثقافي، ولوحات فنيّة طبيعية جميلة يجهلها الكثير، فقط تحتاج منا الى اهتمام، لإظهار هذه اللوحات الطبيعية بكل ما تحتوي من كنوز وتاريخ عريق، وواحة الجغبوب غير مدروسة من الناحية الأثرية والتاريخية والسياحية، ويستوجب الاهتمام بها كمنطقه لازالت بكر لم تصل إليها الدراسات التي يُعتمد عليها، وهذا الآمر يستوجب تشكيل فريق بحثي لدراستها، وارتأيت بأن أستذكر بعض من هذه اللوحات الجميلة التي ازدانت بها بلادي، في محاولة لإظهار صور لوطن رائع لا يمكن إلا أن يكون كما يجب أن يكون، وليس كما يريدونه المأجورين، وأسعى مع مجموعة رائعة، للعمل على مأثر منطقة رائعة، وغنية بكل ما تزخر به.
معروفة لدى الأجنبي أكثر من الليبي، لما لها من دور تاريخي كبير، في الأحداث الليبية، وخاصة في معارك النضال ضد الاستعمار، وكذلك في الاستقرار والحياة، التي ساهمت في إرساء الحياة العامة لدى سكان ليبيا، وتأسيس المدن والقرى، وبحكم تضاريسها، كان تأثيرها في الفن التشكيلي والإبداع الفني والتصوير الفوتوغرافي ملهما، وكذلك بالأغنية الليبية، وهناك من قام بدراسة جيدة عن هذه المنطقة، وكانت في جلها دارسات وأبحاث أثرية، وتاريخية، وأنثروبولوجية.
هناك في أطراف الصحراء، وعلي مشارف بحر الرمال العظيم توجد هذه الواحة الليبية الجميلة، الغنية، بما حباها الله من كنوز طبيعية، انتمت عبر تاريخها إلى الصحراء وحدها، رغم قساوتها الظاهرة، تعج بأشجار النخيل المثمر منذ الأف السنين، والدليل وجود بقايا هذه الأشجار المتحجرة وهي تحاكي عصور مضي عليها ألاف السنين، فتحت ذراعيها للمشرق والمغرب عبر تاريخها المشرف، بدروب طويلة مرت بها، ومراحل عديدة من طرق القوافل العابرة للصحراء خلال فترات متعاقبة، كانت ولازالت مجهولة وتستحق البحث في حطاياها وهضابها وصحاريها، لفتح الأفق وإنارة الدرب لاستكشاف معالمها ومعالم صحرائها وطبيعة أرضها.
كتب عنها أصيل بلدة مسة بالجبل الأخضر الشاعر الغنائي الراحل فضل المبروك رحمه الله في الملحمة الغنائية رحلة نغم التي لحنها الفنان الراحل محمد حسن وغنى أغانيها صحبة تونس مفتاح، سالم بن زابيه، محمد السليني، اشرف محفوظ، مصطفى طالب، فهيم حسين، عبير، لطفي العارف، تقول الكلمات:
في رمال الصحراء تبان زهرة .. العطر يفوح منها ويذوب … تسحر القلوب ..
فتانة .. سمرا .. والسمراء هي الجغبوب .. هي المحبوب .. هي الجغبوب.
تقع واحة الجغبوب غرب واحة سيوة المصرية في منطقة حدودية في الصحراء الشرقية لليبيا، ولها أهمية استراتيجية على مرّ التاريخ، إدارياً تتبع مدينة طبرق التي تبعد عنها بحوالي 286كم، في جهة الجنوب الشرقي، في منخفض مساحته تقدّر بحوالي 56كم مربع، ويربطها بالشمال حيث ساحل البحر الأبيض المتوسط وميناء مدينة طبرق شريان طريق معبد.
كانت مركز سياسي تمتعت من خلاله بمزايا سياسية معينة، وكانت خارج قبضة الحكم العثماني والفرنسي، كما أنها على طريق الحج الرئيسي القادم من غرب شمال أفريقيا عبر مصر إلى مكة المكرمة، وهذه الطريق تقاطع طريق تجاري أخر من ساحل البحر إلى السودان عبر الصحراء الكبرى، لكن في السنوات العجاف الأخيرة حيث خيم الفراغ على بلادنا، خرج مجموعة من الأفاقين، رددوا علينا بأنها مصرية، ولمن لا يعرف، أن واحة الجغبوب الليبية لم تكن يوما واحة مصرية، ولم تكن يوما تابعة لمصر، إلا فترة سبع سنوات سلطة صورية بناء على طلب من الأمير ادريس السنوسي إلى السلطات البريطانية الحاكمة لمصر آنذاك، بأن تضم الجغبوب للأراضي المصرية حتى لا تقع تحت الاحتلال الإيطالي، باعتبارها مركز قيادة لحركة الجهاد ضد الاحتلال الإيطالي، وقد نُفذ هذا الموضوع فيما عرف في التاريخ بخط Kitchener نسبة إلى اللورد Kitchener الذي تم تكليفه بترسيم الحدود، بشرط أن تكون تحت حكم السنوسية، ووقعت بذلك اتفاقية في سنة 1917م بين الأمير إدريس السنوسي من الجانب الليبي واللورد Talbot من الجانب البريطاني، ولكن الإيطاليين أصروا على إرجاعها لتكون تحت السلطة الإيطالية لما تشكله من خطورة على الإيطاليين وحربهم في ليبيا، وبإلحاح شديد من الإيطاليين ومعاونة البريطانيين باعتبارهم حلفاء في الحرب العالمية الأولى، وموافقة الملك فؤاد الذى تربطه علاقات قوية بالإيطاليين تمكنت ايطاليا من إعادة الجغبوب إلى الاراضي الليبية، وكانت تسمى الأراضي الإيطالية في ذلك الوقت، وقد عقدت اتفاقية بين اللورد Milner الإنجليزي والسنيور Scialoja الإيطالي عام 1921م، تقضي بإعادة ترسيم الحدود بين الحكومة الإيطالية والحكومة البريطانية باعتبارها صاحبة الحماية على مصر.
هذه الواحة من المواقع الأثرية والتاريخية التي لازالت تحفظ العديد من المعلومات المفيدة حول الآثار القديمة منذ عصور المايوسين وما قبلها، وكانت في العصور القديمة مغطاة بالمياه، والدليل علي ذلك وجود الأصداف البحرية المتحجرة في العديد من المواقع المنتشرة حول الواحة، مما يؤكد ان هذه الواحة كانت مغمورة بالمياه وكانت تعيش بها العديد من الحيوانات البحرية، ووجود الأصداف المتحجرة كمادة جيدة تحفظها الواحة، تحتاج الى حماية من العبث، قد يستفاد منها تاريخيا وسياحيا وعلميا، وتؤكد الدراسات العلمية أن وجود هذه الأصداف والنباتات المتحجرة يعود لطبقات الميوسين وهى محارات Osttrea Digialina وOstrea Virleti وChlamys Zittelli، وهناك نوع يشابه Chlamys Submal Vinae وهى من الحفريات المعروفة بكثرتها في طبقات العصر الميوسينى، وهذه الطبقات تمتد من واحة الجغبوب إلى نقطة تبعد 110 كم جنوب واحة جالو بالجنوب الليبي.
من معالمها الأكثر شهرا على الصعيد العربي والإسلامي، الزاوية السنوسية العريقة، ذات الأهمية الاستراتيجية عبر التاريخ، والتي قدّر لها أن تُصبح مركزاً للطريقة السنوسية ومهداً لجامعة إسلامية أسسها الفقيه السيد محمد بن على السنوسي القادم إلى ليبيا من الجزائر، الموُلد في مدينة مستغانم الجزائرية عام 1787م، وهو المؤسس للدعوة السنوسية، وتنسب الحركة السنوسية لجده الرابع، نشأ في بيت علم وتُقىً، تلقى علومه الأولى في مستغانم ثم في مازون وأسس في الجغبوب الزاوية التي أصبحت بعد ذلك مركزا للعلوم، هذا التاريخ الكبير تم هدمه ظهيرة يوم الجمعة 11 ديسمبر سنة 1984م، وهدم الجامع والمعهد معا، والعبث بالمكتبة ونهب وتلف محتوياتها بالكامل. كذلك قصر محمد أحميد الثنى الغدامسى، مبني تاريخي يجسد في منظره الطراز الغدامسى القديم..يقول أهالي الواحة بأن كلمة جغبوب مفرد لكلمة (جغابيب) وتعنى المنخفضات التي فيها عيون الماء والمستنقعات الصغيرة، ويشتغل جزء من الأهالي بالزراعة، حيث يتناقلون مقولة مأثور تقول: (الدرر في غرس الشجر)، لذا يعملون في زراعة الخضروات والأعلاف الحيوانية والزيتون والحنة، وتضم واحة الجغبوب اكثر من 50 الف نخلة موزعة داخل منطقة الجغبوب وخارجها وتضم العديد من اصناف التمور، منها أشهر أصناف التمور، الصعيدي بدرجة اولى والدقلة والعزاوي والحمراوي والتفاحي والكعيبي والفريحي، ففي كل عام تجني واحة الجغبوب (الذهب)، وهو عرس الأرض وفرحتها، وعطائها في كل موسم، لأهلها الذين اخلصوا لها وسقوها جهداً وعرقا، هي لحظة يتعانق بها الجهد وانتظار الأيام المباركة التي يبدأ بها أهل واحة الجغبوب بقطف ثمار التمر الذي يعتبر فخر هذه الواحة الطيبة، في شهر مارس تكون أولى المراحل، وهي تلقيح النخيل، ومن بعدها مراحل النمو للثمار، والقطف في شهر سبتمبر، سبعة اشهر حتى يتم نمو الثمار وقطفها بالكامل.
توجد في واحة الجغبوب عدة أنوع من السياحة الهامة، منها السياحة الثقافية، والسياحة العلاجية والسياحة الترفيهية، وسياحة السفاري، وتوجد العديد من المزارات السياحية، والبحيرات الطبيعية المالحة وهي الملفا والعراشية وإفريدغة والعامرة وعين بوزيد وسيدي هلال.
تشكلت هذه البحيرات نتيجة لانخفاض الأرض تحت مستوى سطح البحر، هذه المسطحات المائية التي تشكلت وانحصرت داخل المنخفض تحتوي على نسب عالية من الأملاح التي تنخفض نسبها عند منابع العيون التي تغذي البحيرات، وسبب تركيز الأملاح في مياه البحيرات هو نتيجة للتبخر الناتج عن ارتفاع درجات الحرارة في هذه المنطقة.
في العام 1995م قام أصيل مدينة درنة الزاهرة الأستاذ الفاضل محمد حسن الهنيد رحمه الله، ومجموعة من اعضاء جمعية الهيلع للتراث والدراسات الميدانية والاستكشافية بالعمل على مشروع تطوعي، وبدون أدني دعم من الدولة، وذلك بزراعة الأسماك في منطقة بحيرات واحة الجغبوب الصحراوية، في بحيرة الملفا وبحيرة العراشية والفريدغة عندما أتوا بها من البحر، ونجحت التجربة وأصبحت أسماك الكحلة والقرقوز والبوري والبوكشاش تتكاثر في البحيرات، حتى إن البعض تعجب وقال، سمك في الصحراء إنها معجزة؟، حيث لازالت تتكاثر الأسماك في هذه البحيرات حتى الآن، ولايزال سكان واحة الجغبوب يأكلون السمك الطازج في الصحراء.
ولأن النخيل ميزة من ميزات هذه الواحة توجد بها أغرب نخلة في العالم، وقد اطلقت عليها عدة اسماء منها، النخلة العجيبة، النخلة الملتوية، حيث تبدو من بعيد وكأنها أمرأه تغسل شعرها، وقال أخرون كأن النخلة تركع وتتعبد لله وهي وحدها في هذا المكان بالصحراء الليبية..هذه النخلة اصبحت تعاني في ظل عدم الاهتمام، وهي مهددة بالسقوط، بالرغم من أن علاجها بسيط جدا، ولا يكلف إلا قليل من الاهتمام، بتخفيف الجريد والعراجين اكبر كميه وبحذر تام، ويأمل أهالي واحة الجغبوب في معالجة النخلة قبل سقوطها لكونها معلم تشتهر به الواحة، فالمنطقة بصفة عامة جمال طبيعتها جعلها وجهة للسياح، ونقطة جذب سياحي للسياحة الصحراوية، وخاصة لهواة رحلات السفاري، اضافة الى مقوماتها الاثرية، لكنها تفتقر للترويج الإعلامي للسياحة، ولا أعرف ما إذا كانت وزارة السياحة لها علاقة بهذه الأماكن من حيث إقامة المواسم والنشاطات السياحية فيها، أماكن تحتضن كماً كبيراً من الآثار، في دولة تعتبر الأكبر في اقتناء هذه الآثار بعد إيطاليا، تمتاز بإرث تاريخي يمزج ما بين عصور تاريخية مختلفة، وتمتاز بمناخ معتدل وهو مناخ البحر الأبيض المتوسط، وتمتلك مناطق خلابة رائعة الجمال، وبها أكبر صحراء عجيبة على مستوى العالم، لكننا نفتقر للعقول، وللمخلصين.
الجغبوب ليبية باتفاق دولي وبموافقة الملك فؤاد