في هذا العد الذي ناسب تاريخه احتفال الليبيون بالذكرى الـ)13( لثورة فبراير، رأينا أن نشارك خاصة وأننا الصحيفة التي تحمل اسم هذه الثورة، والتي لازالت في موادها تتشبت بآمال وأحلام الليبيين، التي خرجوا من أجلها.
تلك الأحلام للأسف لم يبقَ منها إلا ما ندر وأهما القليل من حرية التعبير والتي نتميز ببعضها في المنطقة الغربية، وأيضًا منها الشفافية التي دأب ديوان المحاسبة على إصدارها سنوياً، والتي هي منهجنا.
لذلك مشاركتنا الصحفية في هذه المناسبة ليستْ مشاركة للتطبيل، والتزمير كما كانت المشاركة في العهود القديمة، لكنها مشاركة بعين ناقدة، وكتابة شفافة «تحصي ما لهذه السنوات وما عليها».
ومن باب التحليل الناقد لا المتحامل رأينا أن ننشر هذا التقرير الموضوعي والجاد.
هلَّل كثيرٌ من الليبيين للتغيير مطلع 2011م، وهم على قناعة تامة، بأن نظام ما قبل 2011م، كان معتديًا على حقوقهم خاصة الاقتصادية منها، ليشرع نظام اقتصادي جديد محله مع انطلاق إعلان التحرير في نهاية 2011، وهنا يعلن صانع القرار الاقتصادي في ليبيا، هكذا ودون سابق انذار بإقرار الإصلاح عبر السير على نهج
« Wall Street»، ومن هنا أقول:
بأنه لا يمكن إدراج صورة اقتصادية كاملة لليبيا في هذه المساحة الصحفية المحدودة، ولكن سنشير لعنواين رئيسيين في شكل محطات تمس المواطن والمتمثلة في الدخل وقيمة العُملة المحلية، وهي كالتالي:
المحطة الأولى
تتمثل في الفترة 2011- 2012م، حيث شرع صانع القرار الاقتصادي الليبي بلا هوادة في بيع الأملاك العامة، دون تقييم وضعها وتحديد النهج الصحيح للتعامل معها، فأظهرتْ التقارير الرقابية أنه تم خصخصة 125 مصنعًا في 2012م بقيمة بلغتْ نحو 2.2 مليار د.ل، ولوحظ التوجه لخصخصة الوحدات الإنتاجية دون معالجة المختنقات التي كانت تعاني منها، ودون تأهيلها مادياً وتقنياً، مما أدى إلى توقف العديد منها عن العمل أو تعثرها، وعدم الاستفادة منها في دورة الاقتصاد الوطني، )تقرير ديون المحاسبة، 2012، 16(. كما قام في العام ذاته المصرف المركزي بصرف مبالغ لأشخاص بالعُملة الأجنبية يتم بيعها في السوق السوداء، لتوفير السيولة من النقد المحلي، حيث تم تكرار العملية أكثر من مرة، )تقرير ديون المحاسبة، 2011، 91(. هذا فضلاً عن دعم السوق السوداء في كارثة بجريمة لم يقم بها بنك مركزي، حيث رسخ دعائم للسوق السوداء للعبث بقيمة العُملة المحلية، ليلحقها في 2013 بضخ نحو 79.2 مليار دولارفي السوق السوداء، )ديوان المحاسبة،2014، 170(.
المحظة الثانية
تتمثل 2014- 2017م، وفيها تم رفع دعم السلع التموينية الأساسية سنة 2016 مغلفة بوعد وهمي للاستبدال بالدعم النقدي، ليلحقها بمصيبة التمويل بالعجز )طباعة العملة الروسية والإنجليزية(، والتي تشير بعض التقارير المحلية أنها تجاوزتْ 20 مليارًا على أقل تقدير. ثم يتبعها بفضيحة الاعتمادات وكارثة ضريبة العُملة على النقد الأجنبي، في تخبط منقطع النظير ينم على ربكة في تفكير صانع القرار الاقتصادي المحلي ثم خفض قيمة العُملة مقابل العملات الأجنبية، ليوهم المواطن الليبي بتحقيق فوائض بالاقتصاد، وواقعيًا ما هي إلا إعادة تقييم أصول الدولة بعد العبث بقيمة عملتها، وتخفيض الانفاق العام عبر مصادرة مرتبات موظفي القطاع العام وعلاواتهم وترقياتهم، حيث أظهرت التقارير الرقابية التعدي على نحو نصف مليار دينار ليبي سنوياً منذ 2014، وكذلك خفض القيمة الحقيقية للمرتبات، مع فتح الموانيء التفطية وارتفاع صادرات خام الموارد الطبيعية وأسعارها بالسوق الدولي.
رفع الدعم عن السلع التموينية
مقابل وعد وهمي بالتعويض النقدي !!
وفي 2014 كرَّر التجربة ذاتها عند وقوع حرب «فجر ليبيا»، حيث اظهرتْ التقارير استنزاف احتياطيات مصرف ليبيا المركزي من النقد الأجنبي، عبر ايقاف تداول العُملات الأجنبية على المواطن ومنحها لتجار السوق السوداء تحت غطاء اعتمادات تجارية، مما مكن الأخير من المضاربة بالعُملات الأجنبية وأحداث انهيار للعملة المحلية، )ديوان المحاسبة، 2015، 219(. فتجاوزت في العام ذاته ما ضُخ بسوق الجريمة مبلغ 20.8 ملياردولار، ولم يتم إعداد التقارير بالشركات والأفراد الذين قاموا بتحويل النقد الاجنبي، وكذلك عدم بيان السلع والخدمات التي تم توريدها، أو الحصول عليها مقابل ذلك، حيث يلاحظ جلياً أن هذا المبلغ ليس له أثر على الأرض سواءً كسلع، أو خدمات، أو انشاءات )ديوان المحاسبة،2014، 169(، كما تجدر الإشارة إلى أن قيمة اجمالي الاعتمادات المستندية والحوالات الخارجية التي نفذتها المصارف التجارية خلال 2015 بنحو 41 مليار دولار، وعلى الرغم من اكتشاف المركزي التزوير والتلاعب بهذه التحويلات إلا أنه لم يتم اتخاذ إجراءات عملية فاعلة من قبل الإدارة المختصة، والتي من شأنها أن تعالج هذه الظواهر وتلزم المصارف بحسن تنفيذ الأنشطة المرتبطة بعمليات التحويل، وبالتالي بلغ اجمالي ما ضُخ من العملات الصعبة خلال هذه الفترة نحو 141.8 مليار دولار، )ديوان المحاسبة، 2014، ص 169 و170(.
وهنا ظهر شح السيولة، وارتفاع جامح للأسعار، واحتكار بيع العُملات الأجنبية بفضل دعمه من البنك المركزي، ليتحكم سوق الجريمة في مستوى معيشة المواطن الليبي، ويستنزف مدخراته، مع استمراء البنك المركزي الأمر، ويستمر في ضخ العملات الأجنبية لهؤلاء، عبر التعدي على الموازنات الاستيرادية الخاصة بوزارة الاقتصاد، وهذا ادى إلى مزيد من ارتفاع الأسعار وتآكل المدخرات وانهيار العُملة المحلية، بالرغم من تحسن إنتاج النفط في 2017، الأمر الذي جعل من الدينار يساوي 10 سنتات بالسوق السوداء.
40٪ من الليبين تحت خط الفقر في بلد الترواث
المحطة الثالثة
وتشكل الفترة 2018- 2023م، لينفق صانع القرار الاقتصادي الليبي نحو 750 مليارد.ل خلال العقد ونيف المنصرم، وحقَّق عجزًا بالميزانية العامة بلغت 34 مليار د.ل، )تقرير ديوان المحاسبة، 2022، 9، وبيان مصرف المركزي، نوفمبر 2023، 2(، وعجز خارجي بميزان المدفوعات بلغ نحو 50 مليار د.ل أي 10 مليارات دولار في 2023، ولم يحقَّق هذا الانفاق أي تنمية بالاقتصاد الليبي، بل أن العجز لم يرَ منه المواطن الليبي إلا الاخفاق والعجز كما تقدم.
وفيما يخص مستوى الفقر، فقد أظهرتْ دراسة عن مصلحة الاحصاء والتعداد لسنة 2023م، أن 40% من الليبيين يقبعون تحت خط الفقر في بلد ينتج يوميًا 1.2 مليون برميل من خام النفط فضلاً عن الثروات الأخرى كـ)الماس والذهب والغاز والايرادات الأخرى غير النفطية(، ولكن هذه النتيجة ليست بغريبة عن المواطن خاصة وأن التقارير السنوية لمؤشر مدركات الفساد العالمي تضع ليبيا على سدة عرش الفساد، حيث ليبيا لم تغادر 10 افسد دول العالم خلال آخر 13 سنة.
وما يلفت الانتياه أن صانع القرار الليبي، لا ينفك من الادعاء بأنه قام برفع مرتبات موظفي القطاع العام، وبالاطلاع على جدول المرتبات الموحد، نجد أنه جدول وهمي، حيث يقسم موظفي البلد إلى طبقتين الأولى تتكون من 9 مجموعات بمرتبات متدنية، والثانية الطبقة الحاكمة )رئاسة الحكومة والبرلمان والهيئات القضائية والرقابية ..الخ( والتي تقسم لعدة مجموعات بمرتبات فاحشة، ليعزَّز الفجوات السحيقة بين دخول موظفي القطاع العام، هذا فضلاً عن أن هذه الجداول الخاصة بالطبقة الأولى لم تعمل على رفع مرتبات موظفي القاع العام، بل تظهر زيادة اسمية فقط بحيث لا تتعدى علاوة الغلاء التي أحدثها صانع القرار عبر العبث بقيمة العُملة المحلية، ففي 2011 كان أدنى مرتب لموظف القطاع العام وفق القرار )27( لسنة 2011 الصادر عن اللجنة الشعبية العامة « سابقًا»، نحو 450 د.ل أي ما يعادل 360$، ومع التخفيض المتكرَّر والمتلاحق لقيمة العُملة المحلية أصبح اليوم 90$ بفارق تخفيض قيمته 270$، أي ما يعادل بالسوق السوداء اليوم عند سعر7 د.ل للدولار نحو 1890 د.ل، وهو الفارق الذي يجب أن يضاف لمرتب موظف القطاع العام كعلاوة غلاء وليس كزيادة للمرتبات، كما يوهمون المواطن الليبي البسيط. وبتتبع المرتبات وفق القرار )27( لسنة 2011 ستجد أن قيمة المرتب + علاوة الغلاء التي يجب أن تضاف لمرتب الموظف ليصبح أدنى مرتب 2340 د.ل وليس مرتبًا لأدنى درجة 720 د.ل، كما ظهر في جدول المرتبات الموحد لسنة 2022، وأعلى مرتب وفق الدرجة الخامسة عشرة نحو 5284 د.ل، وبالمناسبة أعيد واكرَّر أن هذه ليست زيادة للمرتب بل هي ارجاع دخل موظف القطاع
العام لقيمته الحقيقية كما كانت ما قبل نهاية 2014، أي قبل تحفيض العُملة المحلية.
خصصت وحدات انتاجية دون تأهيليها مادياًً وتقنياً !!
الخلاصة: يخرج علينا عبر الإعلام صانع القرار مؤكدًا بأن من يُسّير الاقتصاد الليبي هوIMF، والتي أجندتها الرئيس هي تدهور قيمة العملة الوطنية، ورفع دعم السلع الأساسية، ورفع دعم المحروقات، وخصخصة جميع الأملاك العامة، ورفع أسعار الخدمات العامة ورفع الضرائب غير المباشرة التي لا تفرق بين غني وفقير، وببساطة هو قيام الدولة بتخليها عن المواطنين، وتتفرغ لجمع الأموال للانفاق المظهري واتاحة الأموال للسياسيين ومَنْ نحا نحوهم، ولعل ما نراه من تفاوت فاحش للأجوار وتمتع فئة منتقاة بالحصول على نصيب الأسد من العملات الصعبة خير برهان، ولا يوجد خيار أمام المواطن إلا عيش حياة الفقر والفاقة ببلد الثروات الطبيعية. والفائدة التي تجنيها المنظمات الدولية هي المحافظ على قيمة الدولار وايقاف التنمية بالبلدان المستهدفة ولكم في دول امريك اللاتينية كلارجنتين والافريقية كمصر ولبنان والعراق وغيرهم خير واعظ.