الذّات البوزيدية بين الاختزال و الانفلات “قراءة سيكونصّية”
إعداد الدّكتوره: إيناس رمضان الشتيوي
إنّ حالات الانفلات النّفسي التي تخضع لها الذّات البوزيدية هي التي جعلت حرفها يخضع للاختزال اللفظي، أي أنّها ذات تعجّ بالمشاعر والأحاسيس والتجارب والأوجاع بشكلٍّ جعلها تنطلق نحو التعبير عمّا يجوب داخلها بنصوصٍ شعريةٍ مختزلةٍ حدّ الاقتصاد حرفًا؛ إلّا أنّها سخيّة حدّ الكرم مقصدًا و دلالةً.
وذلك لأنّها تتعاطى مع مكبوتاتها الداخلية بشكلٍّ مُغاير، فنراها تنهل منها لاشعوريًا لتروي عطش حرفها من جهة، و للتنفيس عمّا يتصارع داخلها من جهة أخرى، دون أن تتعرّى في حضرة النص الشعري، كونها قادرة على غربلة الصّور و اختزالها بكلمات رمزية محدودة تعطي لهذا النصوص نبضها وحركتها وتجديدها وتضع المتلقي في حالة دهشة تدفعه لملاحقة امتداداتها؛كونها نصوصًا منطلقها داخلي/ لاشعوري ومثيرها خارجي/شعوري، تفاعل فيها كل ذلك في خيال هذه الذات حتى اعطاها القدرة على التداخل التكويني و الاندماج الفني.
أضف إلى ذلك أنّها_ أي الذّات البوزيدية_ في جلّ نتاجاتها لا تجاري الماحول بكلّ ما يحوي من قضايا ومتناقضات إلّا من منطلق ذاتي تتماهى فيه مع مكنوناتها الدّاخلية وفقًا لدفقاتها النّفسية التي يثيرها الخارج وتقلباته، فنراها تولّد هنا وتستنسخ هناك، تجدّد هنا وتجتر هناك، ترمّز هنا وتتعرّى هناك، تماشيًا مع الحالة النفسية التي تكون عليها لحظة ولادة النّص الشعري.
كما أنّ اتزانها ونضجها الدّاخلي هو ما جعل الاختزال وسيلة لاضمار ما لا تربد البوح به حتى تحت وطأة اللاوعي؛ بينما هو مباح عند التعمق في هذا الاختزال ومجاراة دلالاته المكثّفة وانفلاتاته الشعورية و اللاشعورية.
أي أنّ الحرف مختزل بينما الشعور منفلت، وحتى لا تكون واضحة حدّ الابتذال نجدها تقنّن هذا الانفلات اللاوعي بالحرف الواعي، وتقيّد ذاك السخاء المقاصدي بالحرف الرمزي الذي لا يمكن النيل منه إلّا من خلال تجاوز المعنى والخوض في معنى المعنى.
فإذا ما توقفنا وقفة المتعمّق عند عنونتها للدواوين وما تحوي من قوة تفجيرية مقاصدية سنجدها ترجمة لمكنوناتها النفسية وخلجاتها المكبوته وما تمرّ به؛ لذا يمكن اعتبارها المفتاح الرّئيس لفكّ شفرات النّص، والكشف عن الحالة النّفسية التي كانت تسيطر عليها، واستشفاف الرغبات والدوافع المتجدّدة في لاوعيها. فالنُص متحوّل عن الذات لا اللّغة؛ لذا هو نصّ صوره حسّية تكتب بلغة المشاعر التي تعطي لهذا النص كثافته ومدلولاته.
فالقلق والتخبط اختزل في (جدوى المواربة)،بينما نلتمس الشعور بالوحدة والشوق للاحتواء في( أخلاط الوحشة)، ومن القلق الذي هو بمثابة التنبيه لشعورها_ أي الذات البوزيدية_ بالحاجة إلى الآخر نجدها ترصد المتوقع في (السير في توقع)، وحتمًا افتقاد الانتماء للماحول وحالة القلق تدفع الذات نحو التفتيش عن نفسها داخلها لتساند نفسها بنفسها و تهديء قلقها وتحدّ من حدته لتستعيد اتزانها النفسي و قد حدث ذلك في (يضيء نفسه)؛ إلّا أنّ التعمّق مع النفس ليس بالآمن غالبًا، كونها تحوي مكبوتات في دهاليز عميقة والنبش فيها وتحريكها ليس بالأمر الهين فهي(معابر زلقة) والسير داخلها سيكلّف هذه الذات البوزيدية صراعات لن تهدأ إلّا بالتنفيس، و التنفيس تحت وطأة هذا التعمق سيعريها أمام نفسها، وقد جسّدت ذلك في (خشبًا يدخن في العراء)؛ لكن ذلك ما لن تقبل به شعوريًا، الأمر الذي دفعها نحو حيلة نفسية لاشعورية هي الحلم( بوابة الحلم ) كونه_ أي الحلم_ وسيلة الهروب الوحيدة التي أمامها لتهرب من مواجهة مكبوتاتها والتفتيش داخلها وتحريكها نحو الخارج