ثقافة

قصة …  حقبةُ الكتابةِ الفاسدة

 

كنت صغيرا, أصحو مع ساعات الفجر الأولى.. هدوء يغريني بأن أنام لساعات أخرى, الجزئيات اليومية في بيت الصفيح المُنعزل, تجعل من الجلوس مبكرا وأنا ممسك بكأس صغيرة بها مخلوط من حليب الماعز وقليل من الشاي, له نكهة تضفي على المشهد المتعة إلى حين.. تتبدد الجلسة بعد لحظات, وأبقى ساهما أتأملُ لهب النار الذي أخذ يخفت..

قطيع الخرفان يصعد السًفح الندي للوادي. رجل كهل أسمر الوجه ذو لحية متناثرة وثياب رثة وحقيبة أُعدتْ مسبقا.. يذهبُ في إثر القطيع الذي أوشك أن يتلاشى خلف الشجيرات فوق حافة الوادي..

في الجهة الأخرى, امرأة تحمل كيسا على كتفها وتحمل في يدها اليسرى جردلا من حليب, أسرعتُ نحوها لأخفف عنها ثقلها. أذكتْ النار.. وضعتْ علبة مليئة بالماء على طرفها.. جرًتنِي نحوها برفق.. خلعتْ ملابسي, فأصبحت كطائر تجردَ من ريشه.. سكبتْ جردل ماء على جسدي وأخذت تفركه بكلتا يديها, ثم طوتني بقطعة قماش, وأعادتني إلى النار من جديد..

عادتْ أدراجها إلى الداخل وأخرجت قِدرا كبيرا امتلأ حتى نصفه مما كان في أضرع القطيع, غطته بإحكام ثم واصلت الخطى إلى النار وشقت نصفها واضعة تحت رمادها قطعة عجين وغطتها بجمرات مازالتْ تتوهج.. نادت بصوت أجش: اذهب واحضر الحمار..

الحمار ضخم لكنه سهل القياد.. حمَّلتْه جرابين وساعدتني أن أعْتليه برفقة رغيف الخبز الذي نضج تحت الرماد.. بدأنا المسير.. منتصف النهار كنا في براح واسع حيث عمل آخر مضني وشاق.. انحنتْ بعد وقفة تأملتْ فيها تلك المساحات الرحبة, تظهر فيها أجساد بين الحين والاخر, وسط أمواج سنابل الشعير الصفراء.

الشمس في كبد السماء ترسل أشعتها سياطا, لم أجد ما أفعله سوى أن أنظر إليها وهي تواصل الزحف أحيانا على ركبتيها وأن أفعل ما تفعلْ, كنت أجاريها في كل شيء تقريبا.. اقتربتْ منٍي.. طبعتْ على جبيني قبلة وقالت: اذهبْ إلى تلك الشجرة, واستظل بظلها, وكلْ من ذلك الرغيف. وواصلتْ هي عبء المعاناة.. أخذت الشمس تميلُ إلى مأواها المعتاد, وأخذ الحمار يطوي مسار العودة, وأخذ يواصل المسير بوتيرته المعتادة, تتباطأ خلفنا بخطواتها المجهدة وقد تحول طرف ردائها إلى حزمة مما تلتقطه أصابعها من أعواد يابسة.

في البيت, الجلْدُ المجوف يتحرك بين ركبتيها نصف العاريتين ساعة من زمن, أنزلته, سكبت منه اللبن, هو عشاءنا مع ما تبقى من خبز.. الليل في أوله وضوء الفتيل يرسم ضلالا باهته على حائط الغرفة المتعرج.. نباح الكلاب يخترق أحيانا جدار الصمت.. ذكرى لطيفِ رجل مهيب يمر كلمح البصر, لا أراه إلا مستعدا للاختفاء من جديد.. قليلا ما يطرق المكان.. لا يدرك عقلي الصغير سبب غيابه المستمر.

سألت أمي مرة: أين يذهب أبي..

أجابت: ليس له شيء يجبره على البقاء هنا.. أتخيل دائما عمامته تحجب معظم جبينه, وعينيه ذات النظرات الحادة, يكثر من السؤال دون أن يكترث بالرد, وعادة ما يغادر دون وداع..

وضعتْ رأسها المجهد على الوسادة, تحول لون بشرتها إلى الاصفرار.. شعرتُ بأنها تتألم.. التصقتُ بجسدها الذي يبعث الحياة, وشعرتُ بأنفاسها على صفحة خدي, ولامستْ يدي وسادتها المثقلة بالدموع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى