سؤال يطرح نفسه دائما، وخاصة مِن أولئك الذين يشاهدون المباريات الرياضية على قنوات beIN SPORTS وغيرها من قنوات دول الخليج، لماذا تميز محمد بالراس علي ونال هذا الاتفاق الجمعي على تميزه في زمن يقل فيه التميز ويندر فيه الاتفاق؟، وكيف أصبح نجما، وربما أكثر نجومية من اللاعبين أنفسهم؟ في زمن تحول فيه التعليق على المباريات إلى ضجيج يشبه ضجيج المنفعلين في المدرجات، إلا أن هذا الرجل ذهب بنا إلى قيم أخلاقية مهنية تجعل من كل مهنة فنا، ومن وجهة نظري الخاصة اعتبر محمد بالراس علي، والمعلق التونسي رضا العودي، والمعلقان الايطاليان Sandro Ciotti و Bruno Pizzul هم الافضل والامتع، من ناحية تقديم المعلومة والتحليل الصحيح، والرؤيا الشاملة حول مجريات المباراة.
ولعل أهم قيمة جعلت من أداء محمد بالراس علي مميزا هي الإتقان، وهي القيمة التي نفتقدها الآن في كل مجالات حياتنا، كذلك الولع، والمثابرة، والجهد المضنى، والمتابعة لكل حدث، في زمن كانت الإمكانات التقنية والتواصلية متواضعة جدا، هي ما أدت إلى الإتقان الذي منطلقه احترام المشاهد والمستمع واحترام اللعبة.
يقول الأستاذ سالم العوكلي: أذكر بداية الثمانينيات، عندما كنت اتابع إحدى مباريات كرة القدم صحبة بعض الأصدقاء، وطلبت منهم الهدوء، قال أحدهم: هذه مباراة كرة قدم تابعها بعينيك. فقلت له: عندما لا يكون المعلق محمد بالراس علي.
ولد الكاتب الصحفي والمعلق الرياضي محمد بالراس علي، بسوق احداش في منطقة الصابري أحد احياء مدينة بنغازي في العام 1948م، لديه شقيق واحد اكبر سنا منه، وهو الاستاذ رفعت بالراس علي احد الشخصيات الوطنية في مجال التعليم وخبير مادة الرياضيات رحمه الله.
درس بمدرسة سوق أحداش وكان خلوقا ومحبا لرياضة كرة القدم ومكافح منذ صغره، وعزيز النفس، ومحب لعمل الخير، ومحبوب من الجميع.
استهواه الإعلام الرياضي منذ صغره وقبل أن ينهي دراسته كانت له بعض المساهمات في الصحف المدرسية، وحتى المحلية في مدينة بنغازي، ونشرت له عديد من الصحف بعض من مقالاته، وكان أبرز ما عرف عنه هو حبه الدائم للتعلم، وكان حريصا على متابعة ومرافقة من سبقه في الوسطي الإعلامي، فعلى الرغم من انخراطه في أكثر من عشرين دورة تدريبية في الصحافة الرياضية والتدريب، كان شغفه كبيرا للتعلم، إلا أن بدايته الحقيقة كانت في العام 1979م عندما ألتحق بدورة تدريبية في الإعلام الرياضي بألمانيا لمدة ستة أشهر، لتكوين خلفية تدريبية عند تعليقه على المباريات الدولية.
بدايته في الإذاعة المسموعة كانت في أعداد البرامج على الورق، ولكن لم يقدمها لضعفه في الإلقاء في ذلك الوقت، وكان يقدمها بدلا عنه الراحلان عبدالله عبدالمحسن وأحمد أنور زاده طيب الله ثراهما، وكانا في الوقت ذاته يقومان بتدريبه على فن الإلقاء، وفي عام 1977م، وعندما شعرا بأنه جاهز لتقديم البرامج تركا له المجال ليبدع فيه، وعرف لدى متتبعي الرياضة عندما بدأ في تقديم ملخصات عن أهم مباريات دوريات الكرة الأوروبية خاصةَ الدوري الإنكليزي والإيطالي، في الإذاعة المسموعة، وتميز عن غيره بأسلوبه المشوق الذي شد كل من تابعه رغم صغر سنه في ذلك الوقت، حيث كان يتفنن وفي كل مرة بتقديم البرنامج بشكل ورونق جديد، وقدم برنامج ملاعب الليل في الإذاعة المسموعة في الفترة المسائية، صحبة الإعلامي الراحل يونس نجم، إلا أنه أصبح فيما بعد في فترتين الأولي الصباحية والثانية المسائية، في الفترة الصباحية كان يقدمها الأستاذ محمد بالراس علي، وقد نالت الفقرة الصباحية أعجاب الجميع في الوسط الرياضي.
لقب بالموسوعة الرياضية، بعد عقود من التعليق الرياضي والبرامج الرياضية التلفزيونية والكتابات الصحفية في الشأن الرياضي، في مسيرة طويلة جداً تميزت بالتفرد والعطاء المبدع المبهر، ولم يكن تميزه وليد الصدفة، أو لأنه فقط يتعامل مع رياضة شعبية تستهوي الملايين، لكنه كان نتاج فترة طويلة من الإصرار والمثابرة والنهم المعرفي تجاه استيعاب وهضم كل تفاصيل المهنة وشروط نجاحه فيها، مع نزوع قوي لأن يضيف لمهنة التعليق ألقا جديدا، ويحقنها بمزيد من الجمال، عبر الحياد الفني والمعلومة الذكية واللباقة والتكثيف في العبارة.
كان يضيف لجمال كرة القدم جمالا آخر، وفرض علينا أن نصغي جيدا لمباريات مرئية متوجهة إلى البصر، فاصطاد الأذن كأداة تلق لتستمع بأسلوبه الرشيق وبغزارة المعلومات التي يختار أفضل الأوقات لعرضها دون أن تأخذه بعيدا عن مجريات اللعبة كما يحدث الآن مع أغلب المعلقين العرب، وخاصة أولئك الذين يتصنعون أو يقلدون، بصراخهم وأسلوبهم الركيك.
وبتحليله الحاذق لتكتيكات المباراة وحدوسه بمساراتها التي لا يعرفها سوى المدربين، وفوق ذلك استطاع أن يحافظ بقدر كبير على حياد المعلق وموضوعيته وروحه المهنية، رغم دفق أحاسيسه الذي كنا نلتقطه في نبرة صوته حين يعلق على منتحب ليبيا، أو بحس مفعم بالجمال حين يعلق على منتخب البرازيل، غير أن هذه العواطف لم تؤثر على جدية تحليله وممارسة نقده الموضوعي الهادئ للوقائع الكروية التي يتابعها في المباراة، وكثيرا ما كان يتمنى التوفيق للفريقين في بداية المباراة، معتبرا أن التوفيق هو اللعب الجميل وظفر الجمهور بمباراة ممتعة بغض النظر عن النتيجة.
طرق الشهرة من أوسع أبوابها عندما ترأس صحيفة الصدى الرياضي التي كانت تصدر من Rio de Janeiro في البرازيل، وقد تواصل مع أشهر اللاعبين في العالم ومن هنا بدأت رحلته في الاحتراف الإعلامي.
ومن بعض مواقفه عندما ألتقى بماردونا في ايطاليا وكان دائم الانتقاد لأخلاقه وحصل على مقابلة صحفية ومنح 5 دقائق، ولكن عندما سأله أنه يريد معرفة ماردونا الإنسان، أستغرب Diego Maradona وقال له كيف؟! فرد عليه محمد بالراس علي أن نصف الكرة الأرضية معجبة بك وأنك خرجت من أعماق الفقر لتكون نجماَ متلألئاَ في سماء Buenos Aires في عز النهار، فأرتاح له ماردونا وقال أنت تقول شعر وجلس معه لفترات طويلة على غير عادة ماردونا مع الصحافيين.
وفي موقف أخر خلال تواجده في البرازيل عند ترأسه لصحيفة الصدى الرياضي تقدم للأكاديمية البرازيلية بثلاثة تقارير عن الكرة البرازيلية، وشكك القائمون عن الأكاديمية بهذه التقارير وظنوا أنه قد سرقها، وقد تحدى القائمين عن الأكاديمية في اختبار، ونجح فيه، ولم يكن لهم إلا أن اعتذروا له وتم قبوله مباشرةَ في الأكاديمية.
عندما دعته شبكة راديو وتلفزيون العرب ART لتحليل مجريات المباراة النهاية لكاس العالم 1998 بفرنسا مساء الأحد 12 يوليو 1998م، والتي كانت بين فرنسا والبرازيل، أحرج كل من كان معه في الأستوديو وهم الصحفي الفلسطيني خالد الغول، الذي كان يدير الأستوديو وضيوفه من المحللين، المدرب المصري عبده صالح الوحش، والسعودي دكتور مدني رحيمي رحمه الله عليهما، عندما أتيحت له كلمة قصيرة قبل المباراة قال ببساطة ستكون مكمن خطورة منتخب فرنسا في اللاعب زيدان وسيأتي هدف من كرة ثابتة، بالرغم من أن زيدان لم يظهر بصورة جيدة قبل هذه المباراة، وقتها استخف دكتور مدني رحيمي بكلام محمد بالراس علي، وقال له كيف، وهذا اللاعب لم يظهر في البطولة وخرج بالبطاقة الحمراء عندما اعتدى على اللاعب السعودي محمد الخليوي، لكن بعد انتهاء المباراة كان مدني محرج وظهر على ملامح وجهه، لأن تحليل محمد بالرأس علي هو ما حدث في المباراة، سجل زيدان هدفان بالرأس من كرة ثابتة الاول في الدقيقة 27، والثاني في 45، واضاف Emmanuel Petit الهدف الثالث في الدقيقة 90 لفرنسا، وفازت فرنسا 3–0 على البرازيل.