ثقافة

حركةُ الأشياءِ الساكنةِ قراءة في رواية (العلكة) .. لمنصور بوشناف

سراج الدين الورفلي

لقد اتخذتْ رواية «العلكة» للكاتب منصور بوشناف منذ البداية شكلًا معكوسًا بالنسبة ليّ، فالعادةُ جرتْ أنَّ تترجم الرواية بعد أن تشتهر بلغتها الأصلية، ولكن هذه الرواية بدتْ كأنها تُرجمتْ أولًا ثم كُتبتْ بلغتها الأصلية، فقد انهالت الكتابات النقدية عليها بلغات أجنبية عدة، وأتت فيما بعد الرواية بلغتها الأصلية تسبقها سمعتها الدعائية التي جعلت منها لغزًا مشوقًا ولذيذًا . 

لا يوجد شيء يشد انتباه القارئ مثل العنوان، وإنّ كان العنوان بدأ معتمًا وغامضًا في هذه الرواية؛ فهو أيضًا يترك القارئ مندهشًا، وفي حيرة من أمره حتى وإن كان مستعجلاً. 

لم أفهم في بداية الأمر، لماذا هذا العنوان المقتضب، والمكثف لأبعد حد، والمسبوق بلام التعريف )العلكة(؛ ظنَّنتُ في البداية أن الكاتب غاب عنه عنوانٌ آخر مرادف، وغارق في المحلية، المحلية التي تسعى بجهد ليبي فاشل في كثير من الأحيان لدغدغة واستجداء العالمية كـ)لُبان( مثلاً، الموازي لكن بأصالة أكثر لمعنى «العلكة» لكن بمجرد أن تقرأ الرواية ستدرك الخدعة، الصنّارة التي وضع فيها الروائي الطعم، الجبنة المستوردة المسمومة التي تستهوي الفئران الوطنية، فاختيار العنوان كان يدل على ذكاء جميل يخدم الرواية وليس مجرد عنوان لهواة الكتب المترجمة.

إنَّ الرواية كلها تطوفُ حول العلكة، وحركتها المفرغة من اللوك، لذلك يمكن بسهولة حذف اللبان كعنوان، فاللبان أكثر ايجابية من العلكة؛ فهو لا يرتبط بالاستهلاك والرأسمالية، العلكة أكثر عبثية والزمن فيها يسير بخطين مثل الرواية تمامًا، الخط المستقيم الذي يبدو كأنَّ لا نهاية له وهو الخط الوهمي العام لأي دولة والتي دون ان تدري تعتقد بلا أدنا شك أنها تسير فيه بحذر وفطنة، أما الخط الثاني فهو الأجزاء التي يحتوي عليها الخط العام ، الخط الذي يتم تقطيعه بقسوة بمجرد أنَّ يتذوق الفم عصارة حلاوة العلكة التي تنتهي بشكل مفاجئ بمجرد أن تبدأ . 

في العامية الليبية نقول عن العلكة (مستيكا )، وهي كلمة تشبه بشكل سطحي كلمة (الاستاتيكا )في الرياضيات وهو علم السكون ، وبوصف اكثر شاعرية فالاستاتيكا هو دراسة حركة الاشياء الساكنة ،مثل العلكة تماما ،وهذه الرواية التي كتبت بلغة سهلة وجذابة تحكي عن حركة الاشياء الساكنة ،ان تكرار بعض الجمل داخل الرواية يخدم تماما مفهوم اللوك والتكرار الذي يحدث بلاوعي، 

في الحقيقة لم يجد رولان بارت مايفعل حين اخرج للعالم فكرته عن موت المؤلف ،ولا اعرف كيف تلقف النقاد الأكاديميين العرب هذه النظرية لتتحول وتحت ضغط السلطة القومية الى قتل المؤلف فخرج النقاد بهراواتهم وأمواسهم ومسدساتهم يبحثون عن المؤلف في كل مكان ليمثلوا بجثته النتنة المؤدلجة فأحرقوا مشاريعه ،قريته ،منزل عائلته الصغير ،ورغم أن المؤلف بسبب هذه الحملة قد قتل بالفعل في احدى الحرائق ولكن النقاد مضوا في تصفيتهم بلا هوادة دون أن يصلهم هذا الخبر ، والحدث الأكثر وحشية بالنسبة لي ليس هو قتل المؤلف بل نسيانه،وترك جثته المتفحمة في احدى مكبات النفاية مجهولة الى الأبد، والنظرية التي كان اساسها تحرير النص من السلطة الرقابة التقليدية ، واظهار النص كفعل أدبي مستقل وقوي لا يمكن تقييده بمؤلفه ، كما تحررت المسيحية وانتشرت بموت المسيح ،اتضح ان مفعولها عند النقاد العرب صار هو التسطيح ومشاريع ناقصة غير مكتملة ومرمية في ادراج دور الناشر اؤلئك الجواسيس الودودين الذين تحكموا في الذائقة الشعبية وجعلوها مستودعات للخرذة ، 

لكن في الحقيقة لأفهم التشكيل الابداعي ولأدهش أكثر كان علي استجلاب التركيب المسرحي للمؤلف ، فقد استخدم بوشناف مهارته المصقولة في المسرح لتدشين فضاءه الخاص في الرواية ، فالمسرحي يجيد وهذا على غير عادة الأدب بصفة عامة في التعامل مع تقشف المناظر والأمكنة ويستطيع بذكاء مراوغ حشو تلك الزوايا الضيقة بكم هائل من الأزمنة ،فمهما ارتقت الرواية عند الواقعيين السذج ومهما ارادوا كتابة اكثر صرامة سيظل كل هذا شكل من اشكال الحياة المسرحية، وفي المسرح كما يقول مافيزولي كل مشهد جاد او ليس جادا جدا او ليس جادا على الاطلاق هو مشهد مهم ، فالعدم مهم في المسرح ،لأن كل شيء مهم . 

يبدو أن عالمنا ليس لديه الوقت لشيرلوك هولمز ، فالشخصيات داخل الرواية لا تستطيع تخيل اشكالها مما يعني عدم أهميتها تماما، ورغم ورود دلالات مثل( بطلنا وبطلتنا) الا أن هذا يبدو بعيدا الى حد ما عن الابطال الحقيقيين ،ان البطل والبطلة هنا مجرد ممثلين وان بدو منضبطين فهم مجرد ممثلين ،يؤدون هذا الجزء بدلا من أداء جزء آخر كان يمكنهم لعبه بالقدر نفسه من النجاح والتفاني، ولقد تورطت في البداية بالاشتباه في أن الكائنات  هنا جميعا تخفي أكثر مما تبدي ،ومن هنا تورطت مثل أي محقق أبله بجلب اجهزة كشف الكذب واختبار الحقيقة والبحث المهووس عن البراهين وشهادات الشهود، فتناسيت كون الكائنات لا تكون دائما خادعة  لكنها دائما غامضة وهي تحتاج الى جهد مغاير لاختراق غموضها ،فهنا الاحداث لارجعة فيها ،والهوس بالتفسير مجرد مضيعة للوقت ،والحفر تحت الشجرة نفسها لا طائل منه ،ففي هذه الرواية الشيء الحقيقي لاينتهي ابدا كما أنه يرقد منهكا دائما على مسافة من علامته، وهنا كما يقول لويس كارول يتطلب الأمر كل الجري الذي يمكنك القيام به ،لتظل في نفس المكان. 

اردت حقا الى من ينقذني و يخبرني بأن الزمان والمكان هم الابطال الحقيقين في هذه الرواية الذكية ،فليبيا اختصرت بشكل غير مجدي في طرابلس وطرابلس انقسمت الى ثلاثة اقسام اكثرهما طولا المتحف والحديقة ، واقصرهما المزرعة ، وهنا علينا أن نتشقلب لنرى الأمر بشكل معكوس، فلا الحدائق ولا المتاحف هما المهمتان في طرابلس ، فحدائقنا والى أمد قريب كانت مهملة و مكبات نفاية وبالنسبة للمتاحف فأنت لن تفهم تماما ماذا تعنيه هذه الكلمة ،ولكن المزرعة التي تحولت من احوازة الى استراحة ،والتي حولها الليبيين الى متاحف وحدائق ودور عبادة وملاهي ليلية وصالات العاب وسجون وقلاع وقصور وزرائب ومخازن ،فكما أن ليبيا هي مزرعة القائد ،حول الليبييون مزارعهم الى

متاحف وحدائق ودور عبادة وملاهي ليلية وصالات العاب وسجون وقلاع وقصور وزرائب ومخازن ،فكما أن ليبيا هي مزرعة القائد ،حول الليبييون مزارعهم الى عدة ليبيات صغيرة ذات حدود حقيقية ذات سيادة، مفرغة تماما من أي زمن يذكر كما هو الحال في الدول القومية التي لاتعترف سوى بلغة واحدة رسمية للزمن وهي لغة الانتظار اللامشروط ،فالمزارع هي مكان رائع لإنتظار شيء ما قد لا يأتي أبدا، ورغم ذلك لا أحد يستطيع ثني أحد على هذه الوظيفة المدهشة، وطالما نحن ننتظر على كل حال فلابأس بجعل الزمن يتكرر الى مالانهاية. 

يتكرر ذكر الزمن في الرواية بعشر سنوات، ويبدو أنه المقياس الفعلي لها، ففي الرواية وعلى غرار ليبيا يتم تقسيم الزمن بشكل ضمني الى أجيال ولكنه قياس للعد فحسب وذلك كما يشطب السجين المحكوم بالمؤبد الخطوط بخط مائل ،وهكذا بمجرد انتهاء كل جيل يتم وضعه داخل صندوق واغلاقه بشكل محكم وايداعه في ارشيف الدولة مع بقية الصناديق الممتلئة بالغبار في العليات المنسية ، فكل جيل قائم بذاته ويمارس القطيعة بشكل قاسي مع ما سبقه وبتلقائية عجيبه مع ما بعده أيضا ، وبذلك نحن نعلم أن هناك أزمنة مكدسة داخل ليبيا يصعب العثور عليها . 

ظل شيء أخير أردت الحديث عنه فهناك حب لا يكترث له أحد حتى سارد الرواية نفسه وان بدا احيانا متعاطفا معه ،وموت داخل الرواية ، موت بالجملة ، موت بلامعنى ،مع عدم تفكيكه  او فهمه بشكل جدي وعدم اعطاءه اي هيبة وهذا  الأمران لا يدلان سوى على الحالة البدوية التي مازالت تعاني منها ليبيا ، 

لقد تمكنت رواية العلكة بشكل مدهش وجذاب من تشريح الفم الذي يلوك العلكة ، وان كنت تنتظر مثلي أو مثلنا وأنت جالس على كرسي فيمكنك بكل سهولة مد يدك وتلمس تحت الكرسي ،ستجد العلكة ذاتها التي كنت تلوكها منذ زمن تنتظر أيضا فمك مرة اخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى